إذا لم يتناول الكاتب «القضايا الكبيرة» يعتبرونه يعيش «ترَفاً» غير مأذون له به أمام شأنٍ مصيري يواجهه لبنان من الاحتلال الى ترسيم الحدود فالعدوان الإسرائيلي فالسلاح الخ… إلّا أن هذه نظرية ساقطة في الواقع وفي المطلق. فالحق في الحياة الحرة الكريمة له الأفضلية وهو أضعف الإيمان، كما هو واجب الدولة تجاه مواطنها وحق هذا المواطن على دولته، لا سيما في بلدنا حيث مداخيل الدولة لا مصدر لها إلّا من جيوب اللبناني في ظل نظام ضريبي ظالم يساوي بين المعدَم والمقتدر. مع اقتناعنا الراسخ بأن التوازي بين الشأنين ليس مستحيلاً.
ذات زمنٍ استضاف أحد الصحافيين سفيراً سابقاً لليابان في لبنان، ورغب السفير أن يقوما بجولة سيّارة في بيروت الكبرى، وما يهمني ليس توصيف «المشوار»، إنما الخلاصة التي طلع بها السفير الذي قال: تكفيك جولة في المدينة وتراقب حركة السير لتتأكّد ما إذا كان في البلد دولة أو لا.
وفي إطار موازٍ فور إصدار مراسيم تشكيل إحدى الوزارات اتصل وزير الداخلية الجديد (وكان سياسياً بارزاً) بصديق صحافي وقال له: التسليم والتسلّم بعد يومين، وأريد أن أطل على اللبنانيين بكلام مهم فبماذا تنصحني؟ أجاب الصحافي: أنصحك بأمرين أولهما معالجة أزمة السير والاختناق، والثاني الإسهام في حل أزمة النفايات وإن لم تكن ضمن صلاحياتك. طبعاً لم «يقبض» الوزير هذا الكلام لأنه كان ينتظر نصيحة في «المسائل الكبيرة»! وبعد أشهر اعترف بأنه كان على خطأ.
اليوم يضع اللبناني دمه على كفه وهو يغادر منزله أو مكتبه لأن قيادة السيارة في بيروت الكبرى وفي كل مكان صارت مغامرة حقيقية محفوفة بالمخاطر.
ومسألة النفايات فضيحة مستمرة، ونتساءل كيف استطاعت بلدان العالم حل هذه الأحجية المستعصية ونحن عاجزون، منذ أن توقفت «بقرة» النفايات التي كانت تدر الملايين على عشرات من أصحاب النفوذ… وأما تلوث البحر والروائح القاتلة عند المرور قرب الأنهر، ففوق طاقة الإنسان على الاحتمال. وماذا عن نهر قاديشا – أبو علي الذي يفصل بين قضاءي زغرتا والكورة وتوجد مباشرة على ضفته مزرعة للخنازير تحت قرية بشنين؟ وكيف يعاني معظم اللبنانيين من شحٍّ مضنٍ في المياه بينما المسابح الكبرى (ومعظمها غير قانوني) تفيض مستوعباتها وخزاناتها المائية، وآلاف «السيترنات» تجد الماء بملايين الليترات لتبيعه من المواطنين بالقطارة؟ (ناهيك بالتلوث والجراثيم)! وماذا عن القضاء الذي يعشش فيه الفساد؟ وأموال المودعين التي «قرطوها»؟ والأقساط المدرسية والجامعية؟ والمرتبات مقابل حفنة من الدولارات؟(…)
لا! هذا ليس في إثارته أي ترف، وعدم معالجته خيانة للمهنة الإعلامية.