شهداء الجيش في مجدل زون: دماء تكتب معادلة السيادة الوطنية

بقلم د. ابراهيم العرب

بقلوب يعتصرها الألم، وبمشاعر يختلط فيها الحزن بالفخر، نتقدم بأصدق التعازي إلى الشعب اللبناني كلّه، وإلى مؤسستنا العسكرية العريقة، وإلى عائلات الضباط والعناصر الأبطال الذين ارتقوا في مجدل زون. إن دماءهم الطاهرة ليست حدثاً عابراً يطوى في سجل الحوادث، بل هي فصل جديد في ملحمة الدفاع عن الكرامة والسيادة، وامتداد لمسيرة طويلة من الشهداء الذين صنعوا بدمائهم هوية هذا الوطن. ما جرى هناك ليس مجرد حادث أمني، بل رسالة موجعة تضعنا جميعاً أمام واجب وطني مقدس: حماية جيشنا، وتعزيز قدرته، وتحصين دوره كحارس للوحدة والاستقرار.

إن استشهاد هؤلاء الأبطال في الجنوب يعكس مرة أخرى حجم الأخطار المحدقة بلبنان، في وقت تتكالب فيه التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية. فبين أزمة معيشية خانقة، وارتدادات توترات إقليمية متسارعة، تأتي هذه الفاجعة لتؤكد أن الجيش اللبناني يقف على خط النار الأول، في مواجهة الإرهاب، وضبط الحدود، ومنع الفوضى، وبسط سلطة الدولة على كامل الأراضي. إنها رسالة بأن أمن الوطن ليس ترفاً، بل ثمنه دماء غالية وصدور عارية تواجه الخطر بلا تردد.

ولأن الدماء أصدق من أي خطاب، فإن واجبنا أمام هذا المشهد الموجع أن نطالب بتحقيق شفاف وسريع، يضع النقاط على الحروف ويكشف ملابسات ما جرى، بعيداً عن أي تسييس أو مماطلة. فالحقيقة وحدها قادرة على إنصاف الشهداء، ومنع تكرار مثل هذه المآسي، وضمان محاسبة كل متورط، مهما كان موقعه أو انتماؤه. فالمؤسسة العسكرية لا يمكن أن تُترَك عرضة للاستهداف، ولا يجوز أن تُمس هيبتها من دون ردّ وطني جامع.

لقد أثبتت التجارب أن الجيش اللبناني ليس مجرد مؤسسة أمنية، بل هو العمود الفقري للدولة، والضامن لوحدتها وكرامتها. وأي محاولة للنيل من هيبته، أو التشكيك في رسالته، هي في جوهرها اعتداء على كل لبنان. فالجيش ليس ملك طائفة أو حزب، بل هو درع جميع اللبنانيين، وخط الدفاع الأول الذي يحول دون انزلاق البلاد نحو الفوضى أو التقسيم. ومن هنا، فإن دعم الجيش ليس خياراً سياسياً يختلف عليه الناس، بل هو التزام وطني يجب أن يجمعهم.

غير أن المؤسف هو تنامي بعض الخطابات والحملات الممنهجة التي تحاول إضعاف الجيش أو التشويش على دوره. هذه الحملات، سواء جاءت في صورة تحريض مباشر أو تشكيك مبطن، لا تخدم إلا أعداء لبنان، وتفتح الباب أمام ازدواجية السلطة وفوضى السلاح. ومن الواضح أن من يسعى لتقزيم دور الجيش، إنما يستهدف الحصن الأخير الذي ما زال صامداً بوجه الانهيارات التي طالت سائر مؤسسات الدولة. ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذه المحاولات تزرع الشك في وجدان الناس، وتضعف الثقة بالمؤسسة التي وحدها تملك الشرعية الدستورية لحمل السلاح.

لقد دفع جيشنا، منذ تأسيسه، أثماناً باهظة دفاعاً عن لبنان من أقصاه إلى أقصاه. ودماء شهداء مجدل زون اليوم تضاف إلى قائمة طويلة من التضحيات التي امتدت من الجنوب إلى الشمال، ومن الجرود إلى العاصمة. هؤلاء لم يسقطوا صدفة، بل في مواجهة مباشرة مع الخطر، في سبيل حماية سيادة لبنان من أي انتهاك أو عبث. وإن أي كلام عن خطوط حمراء يجب أن يُختصر بجملة واحدة: الجيش اللبناني هو الخط الأحمر الوحيد، وسلاحه هو الضمانة الوحيدة للأمن الوطني. أما ما عدا ذلك من أسلحة غير شرعية، فهي قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار وتنسف فكرة الدولة.

إن مقولة “حصر السلاح بيد الدولة” ليست شعاراً للاستهلاك السياسي، بل هي أساس قيام أي دولة محترمة. ولبنان، إذا أراد أن ينهض، عليه أن يعيد الاعتبار لهذا المبدأ، وأن يمنح جيشه ما يحتاجه من دعم مادي ومعنوي ليبسط سلطته على كامل التراب الوطني. ولنا في الحرب الأهلية عبرة لا تُنسى: ففي اليوم الذي انهار فيه الجيش، انهار لبنان بأسره، وتفتت وحدته، وتحوّل إلى ساحة صراع عبثي دفع ثمنه الجميع. واليوم، أي مساس بالجيش هو مساس بآخر ضمانة لوجود الدولة.

من هنا، فإن واجب كل مخلص أن يقف خلف الجيش وقفة صادقة، وأن يرفض أي خطاب أو فعل ينتقص من كرامته أو يحاول تسييسه. كما أن دعم الجيش لا يكون فقط بالكلمات، بل بتأمين احتياجاته، وحمايته من التجاذبات، ومنحه الغطاء السياسي الكامل لأداء مهامه بلا قيود. وهذا يعني أن وضع أي آلية تنفيذية لسحب السلاح غير الشرعي يجب أن يتم من خلال الجيش بمختلف مؤسساته الشرعية، وبما يحفظ دوره ويعززه، لا أن يجري على حسابه.

إن دماء الشهداء أمانة في أعناقنا، ومسؤولية الوفاء لها تفرض علينا أن نحمي المؤسسة التي انتموا إليها، وأن نتمسك بسيادة لبنان كاملة غير منقوصة. هذه السيادة لا تتحقق بالشعارات وحدها، بل ببسط سلطة القانون، وتجفيف منابع السلاح غير الشرعي، وتعزيز الثقة بالجيش كضامن للسلم الأهلي في بلد متنوع ومعقد مثل لبنان. فالجيش الموحد والقوي هو الأساس لأي مشروع دولة حديثة قادرة على حماية مواطنيها وتوفير الأمن لهم.

إن لبنان اليوم أمام اختبار وطني حاسم: إما أن نرتقي إلى مستوى تضحيات شهدائنا ونصون مؤسستنا العسكرية، أو نترك الانقسامات تعبث بمستقبلنا. وفي بلد يواجه تحديات اقتصادية وأمنية غير مسبوقة، يصبح دعم الجيش ضرورة وجودية، لا مجرد واجب معنوي. فهو وحده القادر على حماية الحدود، وردع الاعتداءات، وضمان الاستقرار الداخلي.

ختاماً، نرفع التحية إلى أرواح شهداء مجدل زون، وإلى كل شهيد سقط دفاعاً عن لبنان. سنبقى أوفياء لدمائهم، متمسكين بوصيتهم غير المكتوبة: “احموا جيشكم لتحموا وطنكم”. الرحمة لشهدائنا الأبرار، والشفاء العاجل لجرحانا، والصبر والسلوان لعائلاتهم. وليبقى لبنان حراً، سيداً، مستقلاً، وليبقَ جيشه العنوان الأول لكرامته وسيادته.

د. ابراهيم العرب