صفقة غزّة: مراسم دفنٍ لزمنٍ مضى

بقلم نديم قطيش

«أساس ميديا»

تختتم اتّفاقيّة وقف إطلاق النار في غزّة، وهي تعلن عن نهاية الحرب أو فصولها الأكثر دمويّة، زمناً سياسيّاً امتدّ لأكثر من عشرين عاماً، في الشرق الأوسط. فليس ما نشهده هو نهاية الحرب، بل نهاية الحرب كلغة سياسيّة، أُسّس بها لأسطورة أنّ الميليشيات قادرة، من غير الدول، على رسم مستقبل المنطقة إلى أجل غير مسمّى.

لا تفاوض حركة حماس الآن من موقع من رسّخ رؤيته للصراع وأدواته، بل تبحث بين أنقاض العمران والسياسة عن سبل البقاء، بعد أن استُنزِفت وجُوِّفت، وتواجه مستقبلاً تملؤه أسئلة إعادة الإعمار، والحوكمة، والشرعيّة. بيد أنّ “حماس” ليست سوى الخاسر الأكثر وضوحاً في سياق انهيار أيديولوجيّ أوسع شمل عموم ما يُسمّى محور المقاومة.

هل انتهت إدارة إيران للحروب بالوكالة؟

تتّجه كلّ حرب بالوكالة تديرها إيران في المنطقة إلى النهاية ذاتها، حيث يجد شركاؤها أنفسهم وقد باتوا ظلالاً لوضعيّاتهم السابقة. رضخ “الحزب” قبل “حماس” لاتّفاق وقف إطلاق نار من دون أن يحقّق أيّاً من شروطه. فحرب غزّة استمرّت بعد أن أُجبر على الخروج منها، وهيكله العسكريّ دُمّر وقادته قُتلوا، والأرض التي لم تكن محتلّة قبل حرب الإسناد أصبحت محتلّة الآن، من دون أيّ أفق حقيقيّ للانسحاب منها ما لم توافق إسرائيل على أنّ شروط أمنها قد تحقّقت.

أمّا الحوثيون فسيجدون صعوبة في تبرير هجماتهم بعد أن استسلمت “حماس” لمنطق وقف إطلاق النار، بشروط إسرائيل الكاسحة، وأبرزها بقاء جيشها في غزّة. وفوق كلّ ذلك، خضعت إيران للامتحان، الذي من أجل تجنّبه، خلقت محور المقاومة، وهو الحرب المباشرة مع إسرائيل وأميركا، ليتبيّن أنّ نظريّة الردع الإيرانيّ ليست سوى ردع بالوكالة، لنظام لا يتحمّل الضربات المباشرة، ويدرك أنّ ثمن المواجهة الصريحة أعلى بكثير من إمكاناته.

ضمُّ هذه التطوّرات معاً، يشير إلى نهاية مشروع المقاومة برمّته، لا إلى مجرّد هزائم تكتيكيّة متفرّقة.

إيران وانتهاء الصّلاحيّة

لم يُسحق المشروع الإقليميّ الإيرانيّ عسكريّاً فقط، بل انتهت صلاحيّته النظريّة والعمليّة، بعد أن فشل في تحقيق وعده بنظام بديل، وسرديّة مضادّة للنموذج الغربيّ والخليجيّ. فالتدقيق في اتّفاق غزّة وبنوده العشرين، يفيد بأنّ المحور الفكريّ والسياسيّ الذي تدور حوله مداولات اليوم التالي بعد نهاية الحرب، هو فكر براغماتيّة الدولة، وليس تهويمات التشدّد اللاهوتيّ.

أوّلاً: من الملاحظات التي لم تحظَ بالتغطية الكافية خلال حرب غزّة هي أنّ العالم العربي لم ينفجر، كما دعا يحيى السنوار أو خالد مشعل. فكلّ التعاطف والسخط والاحتجاج، لم ينتج التعبئة الشاملة أو انتفاضة شعبيّة مستدامة، أرادها المحور مطيّة لتغيير التوازن السياسي في العالم العربي، لا في إسرائيل، بهدف هزّ الحكومات والدول العربيّة وإعادة رسم الحدود في البعض منها.

هذا النضج السياسيّ الجماهيريّ، هو الترجمة العمليّة لحال التخمة التي وصلت إليها المنطقة بدولها وشعوبها بحيث انتقل المركز العاطفيّ والعقليّ للسياسة العربيّة من القضيّة الفلسطينيّة إلى التحدّيات الداخليّة لكلّ دولة على حدة. ليس تفصيلاً أنّ تظاهرات الشبيبة في المغرب مثلاً لم تحصل إلّا في سياق مطالبتهم بتحسين ظروف الصحّة والتعليم. وليس تفصيلاً أنّ سوريا تفاوض إسرائيل علناً حول ترتيبات الأمن المشترك في ذروة حرب غزّة. وليس تفصيلاً أن تحتفل أغلبيّة اللبنانيّين بخروج بلدهم من حرب الإسناد التي زُجّوا فيها وسط ترحيب ضمنيّ ومعلن بنتائج الحرب الإسرائيلية على “الحزب”. وليس تفصيلاً أن ينجح الأردن، وهو الحلقة الأضعف في فريق متلقّي تداعيات حرب غزّة، في تعزيز حصانة البلد السياسيّة والمجتمعيّة، في مواجهة التحريض اليوميّ على أمن الأردن ونظامه.

سرّعت مأساة غزّة هذا الانتقال النفسيّ، ليس لأنّ الرأي العامّ العربيّ تخلّى عن أهلها في محنتهم الأصعب، بل لأنّه تجاوز السياسات التي جعلت من غزّة قضيّة دائمة ومستمرّة.

ثانياً: تُنشئ اتّفاقيّة وقف إطلاق النار وصاية إقليميّة ودوليّة على غزّة، وربّما عموم القضيّة الفلسطينيّة، من قبل الولايات المتّحدة ودول الخليج ومصر وتركيا، لتصبح غزّة النموذج الأوّليّ لِما يمكن أن نُطلق عليه “السيادة الهجينة”: فلسطينيّة الاسم محليّاً، مدعومة ماليّاً من الخليج والمؤسّسات الدولية، مُدارة سياسيّاً من واشنطن، وتخضع لإشراف عمليّ من مجموعة من الفاعلين الإقليميّين ذوي المصالح المتضاربة، ولكن ذوي الحصص المشترَكة في الاستقرار.

البديل عن الاحتلال ليس السيادة أو حلّ الدولتين، أقلّه الآن، بل تركيب سياسي تتعدّد فيه طبقات السيادة، وتتوزّع فيه السلطة، ويتمّ التفاوض فيه باستمرار على الشرعيّة. إنّ المعركة الحقيقيّة المقبلة ليست حول مَن يسيطر على غزّة، بل حول مَن يكتب قواعد هذا النظام الناشئ، وما إذا كان سيصبح نموذجاً لمرحلة ما بعد الصراع في اليمن أو لبنان أو حتّى سوريا وغيرها.

ثالثاً: للمرّة الأولى ستُستخدم إعادة الإعمار في منطقتنا كسلاح، من خلال توظيف العقود، والأموال، ومشاريع البنية التحتيّة، وآليّات الرقابة لإعادة هندسة الحمض النوويّ السياسيّ لغزّة وعموم القضيّة الفلسطينيّة. يُراد بهذا المعنى أن يتحوّل التحديث الاقتصاديّ والإعماريّ إلى أداة مصمَّمة لنزع السلاح الأيديولوجيّ، بحيث لا يُنفَق دولار واحد في مكان لا يؤدّي إلى إعادة ترميم الروح السياسيّة والقيميّة والفكريّة لغزّة والمنطقة قبل ترميم الحجر والبنى التحتيّة. فما نحن بإزائه الآن هو عمليّة بناء دولة معقّدة تتجاوز فيها عمليّة إعادة الإعمار بُعدها الإنسانيّ والخيريّ الذي ساد في الحروب الماضية، أكان في جولات غزّة السابقة أو بعد حرب لبنان 2006.

تنوّع السّرديّات

لن يكون مستغرباً أن يزعم كلّ فاعل إقليميّ في هذا الاختبار بأنّ صفقة غزّة تثبت صحّة وجهة نظره. ستؤطّرها قطر كدليل على نجاح الوساطة. وستقدّمها الإمارات كتأكيد على جدوى التطبيع. وستوظّفها السعوديّة لدعم التحوّلات والخيارات السياسيّة المستقبليّة للمملكة. وستصرّ إيران على أنّها برهنت على أنّ المقاومة لا يمكن إخمادها بالكامل. وستعلن تركيا أنّها تستحقّ الثناء على تدخّلها الإنسانيّ. وستصفها الولايات المتّحدة بأنّها انتصار للدبلوماسية غير التقليدية للترامبية السياسيّة. وستحتفل بها إسرائيل بوصفها علماً على التفوّق الإسرائيليّ الحاسم.

سيكون الصراع المقبل صراعاً خطابيّاً في حرب السرديّات، بشأن مَن يكتب قصّة النصر، ومَن يعرِّف الهزيمة، ومَن يتصدّر أبوّة النظام الجديد.

لكن ما لا خلاف عليه أنّ مأساة غزّة، وللمفارقة، ستتحوّل إلى مسقط رأس الواقعيّة السياسيّة العربيّة الجديدة، وستقدّم نموذجاً لكيفيّة إدارة مناطق ما بعد الصراع في عصر لم تعُد فيه اقتراحات الاحتلال الدائم أو السيادة الكاملة ممكنة دائماً.

كتلة الأنقاض الأوضح في غزّة المدمّرة، هي أنقاض خطاب محور المقاومة وإجاباته القديمة. فالمقاومة ليست جوهر الهويّة، والتشدّد اللاهوتيّ بشأن أفكار الجهاد والنصرة ليس أداة أكيدة لصناعة المستقبل، والصراع الأبديّ ليس مصدراً للتماسك الوطنيّ.

قد لا تكون صفقة غزّة هي نهاية الصراع. لكنّها بالتأكيد نهاية الكفاح المسلّح والميليشيات كمبدأ مُنظِّم للسياسة الإقليميّة.

نديم قطيش