بقلم د. ابراهيم العرب
تُعد منطقة الشرق الأوسط بؤرة توتر جيوسياسي معقد، وتزداد هذه التعقيدات حدةً مع استمرار المخاوف المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية. وبالتالي، فإن السعي نحو شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية ليس مجرد هدف مثالي، بل هو ضرورة استراتيجية لضمان الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
وفي هذا السياق، يبرز الدور المحوري للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتتضح التحديات المتمثلة في المواقف المتباينة لدول المنطقة، لا سيما إسرائيل وإيران، مما يلقي بظلال كثيفة على مستقبل الأمن في المنطقة.
دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتزام الدول
تضطلع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدور حيوي في دعم الأمن والاستقرار الإقليمي، وذلك من خلال تعزيز مبادئ عدم الانتشار النووي وتوسيع نطاق الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية بما يخدم أهداف التنمية المستدامة. ويُنظر بتقدير كبير إلى جهود المدير العام للوكالة، رفائيل غروسي، والإنجازات التي تحققت منذ توليه منصبه، مع التأكيد على أهمية تعزيز التعاون مع الوكالة للاستفادة من خبراتها الفنية وضمان تطبيق أعلى المعايير الدولية في مجالات الأمان والأمن النووي؛ ذلك أن إسهامات الوكالة في منع الانتشار النووي والاستخدامات السلمية للطاقة الذرية تُعد ركيزة أساسية في السعي نحو عالم خالٍ من الأسلحة النووية.
ومع ذلك، تواجه منظومة منع الانتشار تحديًا كبيرًا في الشرق الأوسط يتمثل في الخلل التعاهدي القائم؛ فبينما تلتزم معظم دول المنطقة بمعاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)، تظل إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي لم تنضم للمعاهدة وترفض إخضاع جميع منشآتها النووية لضمانات الوكالة الشاملة. وهذا الوضع يفاقم حالة عدم الاستقرار ويقوض مصداقية نظام منع الانتشار العالمي. لذا، تتصاعد الدعوات المطالبة بانضمام إسرائيل للمعاهدة كدولة غير نووية، ويُعرب عن التطلع لقيام المدير العام للوكالة ببذل المزيد من الجهد لتنفيذ القرار السنوي الصادر عن المؤتمر العام للوكالة بشأن تطبيق الضمانات في الشرق الأوسط.
البرنامج النووي الإيراني: بين السلمية والردع النظري
على الجانب الآخر، يمثل البرنامج النووي الإيراني أحد أكثر الملفات إثارة للجدل في المنطقة والعالم. ورغم إصرار طهران على الطبيعة السلمية البحتة لبرنامجها، فإن سياساتها النووية تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من عقيدتها الدفاعية، حيث تسعى من خلاله لتحقيق أهداف متعددة تتعلق بالأمن القومي والسيادة والردع ضمن معادلة القوة والتوازن الإقليمي. وقد بدأ البرنامج في خمسينيات القرن الماضي بتعاون غربي، لكن هذا التعاون توقف بعد الثورة الإسلامية عام 1979. ومع تصاعد الحرب مع العراق والحاجة إلى القدرات الدفاعية، استؤنفت البحوث النووية، وشهدت التسعينيات تعاونًا مع روسيا. إلا أن الكشف عن منشآت نووية غير معلنة عام 2003 من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية صعّد الخلافات مع الغرب.
وتعتمد إيران بشكل كبير على مفهوم “الردع” في عقيدتها الدفاعية، ويُعد برنامجها النووي، حتى لو كان سلميًا، أداة “ردع” استراتيجية هامة؛ حيث يصرّح القادة الإيرانيون أن القدرات التقنية والعلمية التي تطورها بلادهم تمنحها نفوذًا وورقة ضغط استراتيجية في مواجهة التهديدات المحتملة من الخصوم الإقليميين والدوليين. وفي هذا الإطار، يبرز مفهوم”الردع النووي الكامن”، والذي يعني امتلاك الدولة للمعرفة والعلماء والتكنولوجيا واليورانيوم اللازم لصناعة الأسلحة النووية دون الشروع الفعلي في تصنيعها، إلا إذا تعرضت لتهديد وجودي. ويرى المسؤولون الإيرانيون أن هذه الاستراتيجية لا تتعارض مع القانون الدولي وتمنحهم القدرة على الردع والحصول على تنازلات في المفاوضات، مع الاستمرار في التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في إطار معاهدة عدم الانتشار. وبحسب رأيهم تأتي فتوى المرشد الأعلى علي خامنئي بتحريم إنتاج واستخدام الأسلحة النووية لتعزيز الموقف الرسمي، لكن استراتيجية الردع الكامن تظل أداة سياسية فعالة.
تصاعد القلق الدولي: تخصيب اليورانيوم ومستقبل المفاوضات
زاد من حدة القلق الدولي التصريح الأخير للمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، بأن إيران تمتلك نحو 200 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بدرجة نقاء تصل إلى 60%. ورغم أن هذه الدرجة أقل من اللازمة لصنع الأسلحة (90%)، إلا أنها تُعد مرحلة متقدمة جدًا ومقلقة تقنيًا. ووفقًا لتقديرات الوكالة، فإن هذه الكمية تكفي، من حيث المبدأ، لصنع خمس قنابل نووية إذا تم تخصيبها بشكل أكبر. وأشار غروسي أيضًا إلى أن إيران زادت معدل إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى سبعة أضعاف مؤخرًا، مما يُظهر تسارعًا في برنامجها قد يكون بهدف تحقيق مكاسب تقنية وسياسية في ظل جمود المفاوضات النووية. وهذه التطورات تمثل خرقًا واضحًا لالتزامات إيران بموجب الاتفاق النووي لعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، وتثير تساؤلات جدية حول نواياها الحقيقية ومدى استعداد المجتمع الدولي للتعامل مع خطر تصعيد نووي محتمل. لذلك، فإن الحاجة إلى جهود دبلوماسية مكثفة، مدعومة بضغوط اقتصادية، لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات والالتزام باتفاق جديد أكثر صرامة وشفافية، أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
نحو شرق أوسط آمن وخالٍ من الأسلحة النووية
إن قضية منع انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط تظل ذات أهمية قصوى للأمن الإقليمي والعالمي. فالتحديات المتمثلة في عدم انضمام إسرائيل لمعاهدة عدم الانتشار، وتطورات البرنامج النووي الإيراني المقلقة، واستراتيجية “الردع الكامن”، كلها عوامل تزيد من حالة عدم الاستقرار وتُهدد بإطلاق سباق تسلح نووي مدمّر في المنطقة.
ونحن نثمّن الدور الذي تلعبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكن فعاليته تعتمد على التزام جميع دول المنطقة بالمعاهدات الدولية وإخضاع كافة منشآتها النووية لنظام الضمانات الشاملة. وبالتالي، فلا بد من تكثيف الجهود الدبلوماسية لإيجاد حلول شاملة تضمن حق الدول في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، مع منع انتشار الأسلحة النووية بشكل قاطع.
وفي الخلاصة، إن تحقيق هدف شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية يتطلب إرادة سياسية قوية من جميع الأطراف المعنية، وتعاونًا دوليًا فعالًا لضمان مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا للمنطقة والعالم.
د. ابراهيم العرب