كتبت ريتا شمعون
في ظل الضغوط الدولية – الأميركية المتزايدة والمرحلة المالية الحساسة أالتي يمر بها لبنان، اتخذ مصرف لبنان خطوة قاسية في محاولة لضبط حركة الأموال والحدّ من اقتصاد ” الكاش”.
وتحت عنوان ” اعرف عميلك” جاء تعميم مصرف لبنان الأخير بشأن الزام الشركات المالية تعبئة إستمارة لكل عملية نقدية تتجاوز الألف دولار أميركي أو ما يعادلها من ضمن مسار يسمّى ” الامتثال” لمتطلبات هيئات الرقابة المالية الدولية بهدف مكافحة تبييض الأموال والحدّ من اقتصاد ” الكاش” وتمويل للإرهاب .
في أي حال ، التعامل “بالكاش” أو النقد قد تكون وسيلة تبادل تجاري قديمة، ولكنها ما تزال مستخدمة على نطاق واسع في عدد من الدول العربية، يتصدر لبنان حصة المعاملات النقدية من إجمالي المدفوعات، ما يعني انه من أكثر الدول العربية استخداما “للكاش” حيث يسجل نسبة 90%، العراق 85%، مصر والاردن 80%، المغرب 65%، تونس 55%، عمان 50%، السعودية والكويت 30%، قطر 25%، البحرين والإمارات 20%.
وعليه فإن التبادل التجاري في لبنان” بالكاش” خطير للغاية، لأنه يزيد من مخاطر غسيل الأموال وتمويل الارهاب، ويزيد من صعوبة تطبيق القوانين، ويؤدي الى العزلة الاقتصادية الدولية، خاصة بعد إضافة لبنان الى ” القائمة الرمادية” من قبل مجموعة العمل المالي الدولية.
في ضوء إجراءات مصرف لبنان الجديدة التي تهدف إلى تشديد الرقابة على حركة الأموال وعمليات الصرافة داخل البلد، ولا سيّما بعد الاجتماع الأخير الذي ضمّ نقابة الصرّافين والجهات المعنيّة، وضع الدكتور والباحث المقيم لدى كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال ( OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) وخبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي في حديث خاص لجريدة” الشرق” الملاحظات التالية :
أولاً: وبحسب ما ورد في وسائل الإعلام، يمكن تلخيص الإجراءات المعلَن عنها بالتالي:
عقد اجتماع بين مصرف لبنان ونقابة الصرّافين وعدد من الجهات المعنية، خُصّص لبحث سبل تشديد الرقابة على عمليات الصرافة وحركة الأموال النقديّة داخل لبنان.
إلزام الصرّافين بتعبئة استمارة خاصة لكل عميل ينوي تصريف مبلغ يساوي أو يتجاوز ألف دولار أميركي (أو ما يعادلها)، تتضمّن معلومات عن مصدر الأموال، الغاية من العملية، وجهة الأموال بعد التصريف أو التحويل.
وضع هذه الخطوة في إطار أوسع لمكافحة توسّع اقتصاد الكاش، والحدّ من النشاطات غير المراقَبة التي يُعتقد أن جزءاً منها يمول جهات خاضعة للعقوبات، تماشياً مع الضغوط الأميركية المستمرة في ملف مكافحة تمويل الإرهاب.
فحيلي اعتبر، أن هذه الإجراءات من أولى المؤشرات الميدانية لنتائج زيارة الموفد الأميركي من وزارة الخزانة إلى بيروت، وما حملته من رسائل حول ضرورة تعزيز الرقابة المالية، وضبط قنوات تمويل إيران وحزب الله عبر النظام المالي اللبناني.
ثانيا: وانطلاقاً من أهداف مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والحدّ من اقتصاد الظل، يسجل فحيلي، الملاحظات التالية:
إيجابية التوجّه ولكن محدودية الأثر إذا بقي منفرداً. توثيق العمليات فوق عتبة الـ 1000 دولار خطوة مفهومة في سياق متطلّبات الامتثال الدولي. غير أن الاكتفاء باستمارة لدى الصرّافين قد يبقى إجراءً شكلياً، ما لم يُستكمل بإطار متكامل لإدارة المخاطر يربط المعلومات المجمّعة بالتحليل والمتابعة الفعليّة.
سهولة الالتفاف عبر تفتيت العمليات والانتقال إلى قنوات موازية. يمكن لأي طرف يرغب في التهرّب من الرقابة أن يلجأ إلى تقسيم العملية إلى عدّة مبالغ أقل من 1000 دولار (Smurfing). كما يمكن أن يدفع التشدد غير المتوازن نحو توسيع استخدام قنوات غير منظّمة (صرّافون غير مرخّصين، نقل نقدي عبر الحدود، الذهب، العقار، أو شبكات غير رسمية).
معالجة الأعراض بدل الأسباب البنيويّة لاقتصاد الكاش، لافتا الى ان ” اقتصاد الكاش” في لبنان تضخّم لأسباب جوهرية، أهمّها انهيار الثقة بالقطاع المصرفي وبمصرف لبنان، وغياب قانون واضح وشفاف لضبط الرساميل، وغياب معالجة عادلة ومنظّمة للودائع، وتعدّد أسعار الصرف وتقلّبها، وتوسّع التهرّب الضريبي والاقتصاد غير النظامي، مؤكدا ان تشديد الاستمارات عند الصرّافين لا يعالج هذه الجذور، بل قد يزيد من منسوب التوتّر بين المواطن والنظام المالي إذا لم يقترن بإصلاحات جوهرية.
خطر الانتقائية في التطبيق وتقويض الثقة الرقابية. أي انطباع بأن الإجراءات تُطبَّق بصرامة على المودع العادي أو صاحب التحويل الصغير، بينما تُغضّ الطرف عن شبكات كبيرة أو جهات محميّة سياسياً، سينسف الهدف الرقابي والرسالة المرسلة إلى الشركاء الدوليين. اليوم، معيار التقييم الدولي لم يعد وجود النص، بل فعالية التنفيذ على الجميع من دون استثناء.
إمكانية تعزيز الإقصاء المالي بدل الحدّ منه. إذا شعر المواطن أو صاحب العمل الصغير أنّ كل تعامل فوق 1000 دولار سيعرّضه لاستجواب أو تدقيق مزعج وغير واضح المعايير، فقد يفضّل الخروج أكثر من النظام الرسمي. وهذا يناقض أهداف الشمول المالي، ويزيد مخاطر تبييض الأموال بدلاً من تقليصها.
وحتى تؤتي هذه الخطوات ثماراً حقيقية، يرى فحيلي، أنه من الضروري، دمج الإجراء ضمن استراتيجية وطنية لتقليص اقتصاد الكاش. وربط الإجراءات عند الصرّافين بخارطة طريق واضحة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي ومعالجة الودائع، بما يعيد الحدّ الأدنى من الثقة بالنظام المالي. والسير نحو مقاربة أكثر استقراراً لسعر الصرف، وتخفيف تعدّد الأسعار الذي يشجّع التعامل النقدي خارج القنوات الرسمية، ويتابع فحيلي، مقدما بعض الاقتراحات:
توحيد معايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب على كل الجهات المكلّفة. توسيع الرقابة لتشمل ليس فقط المصارف والصرّافين، بل أيضاً المهن والأعمال غير المالية المكلّفة (العقار، الذهب، المحاسبين، المحامين ضمن حدود المعايير الدولية، الجمعيات، ومزوّدي خدمات الدفع). واعتماد منهجية واضحة للمخاطر القطاعية تُنشر خلاصتها بشفافية للرأي العام.
إصدار تعميم تفصيلي وشفّاف يوضح حقوق وواجبات كل طرف. تحديد نموذج الاستمارة ومضمونها، والحد الأدنى من المعلومات المطلوب جمعها، وكيفية حفظها وحماية سريّتها. وتحديد الجهة التي يحق لها الاطلاع على هذه البيانات (مثل هيئة التحقيق الخاصة)، وفترات الاحتفاظ بها، وآليات الإبلاغ عن العمليات المشبوهة. والتأكيد في التعميم على أن الغاية هي حماية النزاهة المالية، لا التضييق الاعتباطي على الأفراد والشركات.
اعتماد مقاربة تدرّجية ومخاطرة-مبنيّة. التمييز بين العملاء ذوي المخاطر المنخفضة (موظفون، متقاعدون، تجار صغار…) والملفات ذات المخاطر الأعلى، بدلاً من فرض عبء إداري متماثل على الجميع. ورفع عتبة التدقيق المتشدّد على أساس سلوك العميل وتكرار العمليات، وليس فقط على أساس رقم ثابت (1000 دولار).
ضمان استقلالية وفعاليّة المتابعة. تمكين هيئة التحقيق الخاصة من استخدام المعلومات المجمّعة بصورة ممنهجة، وربطها بقاعدة بيانات موحّدة على مستوى النظام المالي. ونشر تقارير دورية (ولو بمؤشرات عامة) عن عدد الحالات المشبوهة، ونوعية المخاطر المكتشفة، والإجراءات المتخذة، لتعزيز ثقة الداخل والخارج بجدّية لبنان.
ويوضح فحيلي، أن الهدف من هذه الملاحظات ليس الاعتراض على مبدأ تشديد الرقابة، بل على العكس تماماً: المطلوب أن تتحوّل هذه الخطوات من إجراءات ظرفية مرتبطة بزيارة أو ضغط خارجي، إلى جزء من سياسة مستدامة لإخراج لبنان من اقتصاد الظل، وتعزيز امتثالَه لمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، واستعادة الثقة بنظامه المالي. إن نجاح مصرف لبنان في إدارة هذه المرحلة الدقيقة يتطلّب مزيجاً من:
وضوح القواعد،
عدالة التطبيق على الجميع،
وشفافية التواصل مع الرأي العام والشركاء الدوليين.
راجياً أن تساهم هذه الملاحظات في النقاش الدائرحاليا حول تطوير الإطار الرقابي المالي .