فلسطين إلى أين؟

بقلم البروفسور وليد رامز عربيد

كتب هذا المقال قبل سنوات من «طوفان الاقصى»، وهو يطرح سؤالا خطيرا عن مصير قضية فلسطين. والواقع ان الاحداث التي لحقته ومنها الحرب الاسرائيلية على غزة والضفة والمستمرة منذ ستة اشهر، والمستمرة حتى الان، تؤكد أن هذا السؤال لا يزال مطروحا بقوة.
هل ضاعت فلسطين في خضمّ الصراعات في المنطقة، وما هو مصير حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين على ضوء الإهتمام الإقليمي والدولي بموضوع انتشار النازحين السوريين؟
هل ضاعت فلسطين؟ العنوان ليس مستغربا. ربما، قبل ثلاثة عقود كان ليعتبر خيانة عظمى، وطعنة في الوجدان القومي العربي. أما اليوم فليس صعبا الاجابة على هذا السؤال. فللاسف نعم، نكاد نجزم ان فلسطين ضاعت. اقول نكاد.. لاننا نحتاط ونقول ان ارادة الشعوب وحدها التي تنتصر وتقرر في نهاية المطاف.
ما الذي يدفعنا الى التشاؤم؟
قبل ايام قليلة فقط اعلنت اسرائيل عن مشروع استيطاني جديد في القدس المحتلة. وهكذا خبر اصبح معتادا ومكررا، ولكن اللافت انه لم تصدر اي ردود فعل عملية رافضة عربا ودوليا، واقتصر الامر على بعض الادانات الكلامية. وهذا يؤشر الى ان اسرائيل نجحت في تكريس نفسها دولة استيطانية في قلب العالم العربي. يساعدها في ذلك امور عدة:
اولا: غياب اي نشاط سياسي ديبلوماسي اقليمي دولي من اجل ايجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية على قاعدة القرارات الدولية، او على اساس المبادرة العربية للسلام. وفي هذا المجال تعجز فرنسا حتى الآن في مسعاها الى عقد مؤتمر دولي حول فلسطين. ومعروف ان الدور الفرنسي والاوروبي عموما كان وسيظل قاصرا عن انتاج اي حل اذا لم تساهم فيه الولايات المتحدة الاميركية.
ثانيا: انحسار الامل بتحرير فلسطين عسكريا، اولا لان المعني الاول، اي منظمة التحرير الفلسطينية انخرطت في تسوية سلمية عقيمة، انتجت سلطة وطنية فلسطينية هزيلة خاضعة لسلطة الاحتلال. كما ان الحركات الفلسطينية الاخرى، مثل حماس والجهاد الاسلامي، اضعف من أن تشكل قوة مقاومة حقيقية قادرة على خوض المعركة.
ثالثا: غياب الحاضنة العربية للقضية الفلسطينية، فالدول التي لا تزال تمانع السلام مع اسرائيل غارقة في حروبها الداخلية، والدول الموقعة لمعاهدات سلام مع الدولة العبرية، ابعد ما تكون عن هذه القضية. واللافت ان دولا عربية كثيرة انخرطت في اقامة علاقات سياسية وامنية مع اسرائيل بذرائع شتى مثل التصدي للزحف الايراني مثلا..
السياق التاريخي
لقد ولدت اسرائيل من رحم اتفاق سايكس بيكو، فهذا الاتفاق شكل في عام‮ ‬1916‮ ‬طعنة للتطلعات العربية نحو إقامة دولة عربية واحدة،‮ ‬أو خلافة عربية إسلامية،‮ ‬علي نحو ما كان يأمل الشريف حسين بن علي،‮ ‬أمير مكة، الذي تزعم الثورة العربية على الخلافة العثمانية، بمباركة ووعود إنجليزية،‮ ‬في أن يصبح ملكا لآسيا العربية كاملة‮.‬ وما إن تحققت أهدافهما بهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، حتى تم تقسيم الشام بين‮ ‬نفوذ الدولتين فرنسا وبريطانيا، وتم تمهيد الطريق لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عن طريق وعد بلفور‮ ‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ اليوم وبعد مئة عام على سايكس بيكو ثمة محاولة حثيثة لإعادة تركيب وتشكيل المنطقة العربية، وهذا ما يحدث الآن، واذا تم فإن اسرائيل هي المستفيد الاول منه، لانه يكرس وجودها، ويكرس ضياع فلسطين التاريخية. في المئة عام الاخيرة تجذرت روح القطرية الوطنية على حساب القومية العربية، ثم تجذرت الانتماءات الطائفية،‮ ‬والعرقية،‮ ‬بل والمذهبية،‮ ‬في العديد من الدول، وفشلت محاولات التوحد العربي البسيطة والاستثنائية، وحتى جامعة الدول العربية بوصفها مؤسسة التضامن العربي بحده الادنى باتت مشلولة وعاجزة‮.‬ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ العالم العربي أصبح عاجزا عن إدارة ملفاته، بل أصبحت العديد من الدول العربية مهيأة لسيناريو التقسيم من جديد على أسس طائفية وعرقية،‮ ‬وليس على أسس وطنية، سواء كان ذلك في سوريا،‮ ‬أو العراق،‮ ‬أو ليبيا،‮ ‬أو اليمن، أو السودان‮.‬ وإذا نجح سيناريو التقسيم في أي من هذه الدول، فإن العقد سوف ينفرط‮.‬ حتى الدول المستقرة يقال إن هناك خططا دولية لتقسيمها أيضا‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
تحول عدد كبير من الدول العربية إلي كيانات هشة‮ ‬غير قادرة على بسط نفوذها وسيادتها على كامل ترابها، في ظل سيطرة أطراف الصراع علي مناطق جغرافية معينة، تستند فيها إلى تفوق عسكري،‮ ‬أو عرقي،‮ ‬أو مذهبي، فتحولت إلي كيانات شبه مقسمة فعليا بين أطراف الصراع من‮ ‬ناحية،‮ ‬وتنظيمات الإرهاب من ناحية أخرى، مثل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية‮ «‬داعش‮» ‬علي مناطق واسعة في سوريا والعراق‮.‬ فإذا كانت الأطراف الخارجية في اتفاق‮ «‬سايكس-بيكو‮» ‬القديم سببا في تقسيم العالم العربي إلى مناطق نفوذ، فإن الأطراف الداخلية في مشروع التقسيم المحتمل ستكون سببا رئيسيا لهذا التقسيم‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ التقسيم على اسس طائفية ومذهبية يقدم خدمة جليلة الى الحركة الصهيونية وفكرها والى الكيان الاسرائيلي القائم على اساس ديني طائفي عنصري.
الموقف الدولي
تعتقد بعض الدول الكبرى أن تفتيت وتقسيم الدول العربية يحقق مصالحها، حتى لا تستطيع هذه الدول التوحد مرة أخرى في مواجهة مصالح الدول الكبرى‮.‬ بل إن تفتيت هذه الدول يصبح في مصلحة إسرائيل،‮ ‬حيث لن تكون هناك دولة عرقية أكبر منها في المنطقة‮.‬ كما أن تفتيت الدول سيجعلها ضعيفة، وسيجعل إسرائيل متفردة في الحفاظ على أمنها القومي، فلن يجبرها أحد على التخلي عن الأراضي العربية المحتلة‮.‬ كما أن التقسيمات المحتملة تنهي واقعيا أي فرص للعرب للتوحد والتكتل‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ هذا الواقع لا يراه بعض النخب العربية الذي يبقى غارقا في اوهام تحليلاته النظرية التي تعكس عجزا وعقما مستفحلا على ارض الواقع. كالقول مثلا ان تقسيم المقسم لن يكون في مصلحة الدول الكبرى، لأنها تتعامل مع الدول الوطنية القائمة بأريحية ومرونة، فما بالك عندما تصبح هذه الدول عبارة عن جماعات عرقية أو مذهبية مختلفة؟ فضلا عن أن أسس التناحر والصراع ستظل قائمة بين هذه الكانتونات الصغيرة، وهذا بالتأكيد سيكون مدعاة لعدم الاستقرار الإقليمي‮.‬ كما أن اتجاهات التقسيم تتعارض نظريا مع الاتجاهات الدولية السائدة نحو التكتل والتوحد في صيغه المتنوعة‮.‬‬‬‬‬‬‬
المستقبل القاتم
ماذا لو وضعنا وجهتي النظر هاتين، القول بالتفتيت والقول بعكسه، امام امتحان الوقائع. سريعا سيظهر لنا ان ثمة اتفاقا دوليا غير معلن على ابقاء دول مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان منقسمة على نفسها. وتبدو دول الاقليم الكبرى مثل تركيا وايران واسرائيل منخرطة تماما في هذا الامر، في حين تعجز الدول العربية الكبرى مثل مصر والسعودية عن تغيير اي حرف في هذا الواقع.