بقلم د.سمير صالحة
«اساس ميديا»
شكّل “إنزال العلمين” في أربعينيّات القرن الماضي جزءاً من هندسة تحالف دولي أعاد رسم توازنات المنطقة. فهل نحن أمام “إنزال دبلوماسي” جديد يمهّد لتأسيس نواة تعاون مصري – تركي، ثنائي وإقليمي، قابل للتحوّل إلى بداية توازن مختلف في مواجهة السياسات الإسرائيلية التي باتت تهدّد أمن ومصالح البلدين؟
هل يتحوّل وجود وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في القصر الرئاسي الصيفي في العلمين، واستقباله من قِبل الرئيس المصري عبدالفتّاح السيسي، إلى نسخة جديدة من الانفتاح والتنسيق تستدعيها ظروف المرحلة ومتطلّبات توازنات سياسية وعسكرية إقليمية جديدة؟
لم تعد أنقرة والقاهرة على ضفّتي نقيض كما كان عليه الحال قبل أعوام قليلة، بل تلتقيان اليوم على أرضيّة مشتركة عنوانها: المخاطر المحدقة بتوازنات الإقليم ومصالحه، وضرورات مواجهة محاولات تغيير الخرائط وفرض واقع جديد، والقلق المشترك من الممارسات التصعيدية التي يروّج لها بنيامين نتنياهو.
تقويض رسائل اللّقاء؟
لم يكن وجود فيدان في العلمين مناسبة دبلوماسية، بل محطّة استراتيجيّة حملت رسائل تتجاوز العلاقات الثنائية لتمتدّ إلى الأمن الإقليميّ برمّته: من التعاون الاقتصادي والعسكري، إلى موضوع الطاقة وتطوّرات الأوضاع في غزّة وليبيا وسوريا.
في ظلّ استمرار إسرائيل في إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة بالقوّة، يبدو أنّ الضرورة لا المجاملة هي التي تقود أنقرة والقاهرة نحو تنسيق أعمق، في مواجهة ما تعتبرانه تهديداً مباشراً لتوازنات الإقليم ومصالحهما الحيويّة.
حملت الإشارات التي خرجت من لقاء العلمين موقفاً صريحاً تجاه حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في غزّة، ومحاولات فرض تهجير قسري واسع للسكّان باتجاه الجنوب، بالتوازي مع خطوات ضمّ الضفّة الغربية بحكم الأمر الواقع والتجاهل الأميركي. ما نوقش هو بحث فرص وآليّات ردع تل أبيب ولجمها. لم يكن من قبيل المصادفة أن نسمع وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي يعلن، نيابة عن نفسه وعن نظيره التركي، “توافقات مصرية – تركية حول سبل التعامل مع الأزمات الإقليمية”.
في المقابل، لم يكن إعلان إسرائيل “تفاصيل جديدة في اتّفاق الغاز مع مصر”، ووصفه بأنّه خطوة استراتيجيّة بعيدة المدى، كافيَين لتقويض رسائل لقاء العلمين. فقرار مصر وقف استيراد الغاز الإسرائيلي عقب اندلاع أحداث غزّة، وتوجّهها للحصول على احتياجاتها من مصادر أخرى، أعاق محاولات تل أبيب توظيف هذه الورقة سياسياً واقتصادياً ضدّ القاهرة. ثمّ يأتي اليوم رفض البلدين لرغبة إسرائيل في فرض وقائع ديمغرافية وجيوسياسية جديدة في القطاع والضفّة الغربية ولبنان وسوريا.
واضح أنّ أنقرة والقاهرة متّفقتان على أنّ نجاح تل أبيب في إلزام دول المنطقة برؤيتها، سيقود إلى زعزعة الأمن في أكثر من مكان ويقطع الطريق على جهود بناء سلم شرق أوسطيّ، مفتاحه حلّ عادل ودائم للقضيّة الفلسطينية.
إلى جانب ذلك هناك اهتمام تركي – مصري مشترك بمستقبل ليبيا، التي تشهد ترتيبات سياسية وأمنيّة جديدة. احتمالات تسريع خطوات ترسيم الحدود البحرية بين الدول المتشاطئة في شرق المتوسّط قد تكون بين الملفّات الحيويّة التي تحمل أهميّة استراتيجيّة كبيرة للبلدين.
مصلحة مشتركة
جاءت رسالة العلمين الأخرى واضحة تجاه إسرائيل، التي تطرح خطط تدمير ديمغرافي وسياسي في الإقليم تقوم على سياسة القوّة العسكرية والخدمات التي يقدّمها لها البعض. ما نوقش في العلمين هو توفير المزيد من الدعم للحراك السعودي في مسار حلّ الدولتين، والاستعداد لشهور دبلوماسية حامية في أروقة الأمم المتّحدة، من دون إغفال حصّة تطوّرات المشهد في سوريا وشرق المتوسّط والقرن الإفريقي، وما واكبها من مواقف انفتاحية تحمل معها تسويات عادلة وشاملة لهذه الملفّات. وتتزامن زيارة فيدان لمصر مع مرور مئة عام على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، في ظلّ تسارع الاستعدادات في أنقرة لوضع الترتيبات اللازمة لزيارة الرئيس السيسي لتركيا، وتحضيرات أعمال مجلس التعاون الاستراتيجي المشترك. فالهدف، كما أُعلن، هو رفع حجم التبادل التجاري من 9 مليارات دولار إلى 15 ملياراً خلال السنوات القليلة المقبلة.
فرضت تعقيدات الملفّات الإقليمية وتشابكها السياسي والأمنيّ والاقتصادي على تركيا ومصر ضرورة مراجعة علاقاتهما المتوتّرة طوال عقد كامل. القناعة المشتركة اليوم هي أنّ التصعيد على العديد من الجبهات لم يكن في مصلحة الطرفين، بقدر ما كان لمصلحة أطراف أخرى تستثمر في هذا التوتّر والتباعد. قطعت تركيا ومصر فقط في السنوات الثلاث الأخيرة شوطاً متقدّماً في مجالات التعاون، لا سيما في حقول الصناعات العسكرية وتبادل الخبرات في التكنولوجيا المتقدّمة، وهو ما يعكس أهداف الشراكة الاستراتيجيّة الجديدة بينهما.
ما يجمع القاهرة وأنقرة اليوم من دوافع وأسباب إقليمية مشتركة يفوق ما يفرّقهما. تمسّك إسرائيل بالتوتير الإقليمي، وتداعيات هذه السيناريوهات التي تجعل منها ممسكة بالعديد من خيوط اللعبة، هي بين العوامل الأساسية في هذا التقارب التركي – المصري اليوم.
لم يكن المسار الجديد في العلاقات التركيّة – المصريّة تصحيح مسار وحسب، بل خطوة محسوبة في مشهد إقليمي تتزايد مشاكله وأزماته بما يتعارض مع مصالحهما. ما كان مستبعداً قبل سنوات، بات اليوم ممكناً بل وضرورياً، في مواجهة مخاطر تمسّ الأمن القومي للبلدين، من غزّة إلى سوريا، ومن شرق المتوسّط إلى البحر الأحمر والقارّة السمراء.
المشهد مرشّح لمزيد من التقارب، بشرط أن ينجح الطرفان في تحويل توافق اليوم إلى شراكة استراتيجيّة طويلة المدى. لا يتعلّق الأمر فقط باحتواء طموحات إسرائيل، بل بإعادة بناء محور إقليمي جديد يعيد تشكيل التوازنات ويمنح دول المنطقة القدرة على صوغ مصيرها بعيداً عن الإملاءات الإسرائيلية.
د.سمير صالحة