بقلم د. كرم كرم
غاب جمال عبد الناصر وهو يرفع شعاراً بسيطاً يحاكي قلوب البسطاء من أمّتنا والفقراء والمحرومين: ‘إرفع رأسك يا أخي.’
أغاظ به المستعمر وأثار غضب المستغلّين الجشعين. أراد أن يدافع عن كرامة الفلّاح المصري والمواطن العربي المقهور. لم يرق لهم ذلك فتألّبوا عليه.
كنت فتيّاً على شرفة قصر الضيافة في دمشق العروبة عام ١٩٥٨ يوم كان والدي مع أكبر وفد لبناني يرحّب بعبد الناصر برئاسة أحمد الأسعد وعضوية كامل الأسعد وشكرالله كرم ( والدي )ورفيق شاهين وعبداللطيف الزين. كان جمال يخطب في الحشود المتدفّقة للقياه، ويوجّه لومه لحكّام العراق آنذاك ورئيس وزرائه عبد الوهاب مرجان.
روى الرئيس عبد الناصر قصّته مع مرشد الإخوان حسن الهضيبي في أحدى خطبه، قال: بعد أن وقّعنا
وثيقة السلام، بادرني الهضيبي بقوله :”لي منك طلب خاص يا سيادة الرئيس” سأله الرئيس عن ماهيّة الطلب، أجاب المرشد: “أن تأمر بإلباس المرأة المصريّة الطرحة”أجابه الرئيس بنباهته المعهودة:
نمي إليّ يا أستاذ أنّ لك بنتاً تدرس الطبّ في القصر العيني وهي سافر. أنت لم تستطع أن تُلبس بنتك الطرحة وتطلب منّي أن أُلبس عشرة ملايين إمرأة مصريّة الطرح !!
أعدنا حكاية هذه القصّة في القاهرة في بيت الدكتور مرعي مخلوف وبحضور إبنه حسنين الذي تدرّب عندي في الجامعة الأمريكية في بيروت ، وزوجاتنا الطبيبات. ابتسمت زوجه الدكتورة سعاد ولماّ سألْتها عن سبب ضحكها قالت: هي أنا البنت التي تحدث عنها جمال عبد الناصر .. انا ابنة الشيخ حسن الهضيبي ! وتابعنا الحديث عن مزايا الرئيس وصفاته النادرة. وفي مناسبةٍ أخرى أفاضت السيدة جيهان السادات بالحديث عن سمات الرئيس جمال ،وتمايزه عن سائر الضبّاط الأحرار بدماثة خلقه وقوّة شخصيّته وعلوّ مبادئه.
صدمني نبأ وفاة الرئيس وأنا أقود سيارتي في مدينة بوسطن في طريقي إلى عملي في المستشفى. أوقفت السيّارة بمحاذاة الرصيف لبضع دقائق تساعدني على استعادة أنفاسي ومسح دموعي. وبعدها تقبّلت تعازي الأصدقاء المغتربين في شقّتي.
أمّا ما كنت شاهدته في شوارع بيروت، مدينة الأحرار قبل ثلاث سنوات وبعد سماع نبأ استقالة عبد الناصر فوجوه جاهمة وعيون دامعة ورؤوس تطرق الجدران حزناً ورفضاً لتنحّي الرئيس الحبيب.
د. كرم كرم