قضية “تنّورين” تفتح ملفاً تتلوث فيه الحقيقة قبل المياه

بقلم نادين شلهوب

في بلدٍ يفيض بالينابيع والأنهار، لكن يعاني عطشاً مزمناً، عادت قضية المياه في لبنان إلى الواجهة بعد قرار إقفال شركة مياه تنّورين مؤقتاً وإعادة فحص جميع المياه المعبأة في الأسواق. القرار الذي صدر عن وزير الزراعة وليس وزير الصحة، أثار موجة من التساؤلات والجدل، بخاصةٍ وأن وزير الصحة نفسه كان قد أطلق قبل أسبوعين فقط حملة وطنية للتلقيح بالتعاون مع الشركة ذاتها، في إطار تشجيع تلقيح الأطفال.

من شركة محليّة إلى اسم وطني:

تُعد شركة “تنّورين” واحدة من أبرز شركات المياه في لبنان. انطلقت عام 1990 بجهود محلية بسيطة، وبُنيت حجراً فوق حجر بعرق وجهد أبنائها، لتتحول خلال السنوات الأخيرة إلى أكبر موزّع للمياه في البلاد. هذه المسيرة الطويلة جعلت من اسمها مرادفاً للجودة في نظر شريحة واسعة من اللبنانيين، قبل أن تجد نفسها فجأة في قلب عاصفة إعلامية تتحدث عن “تلوث مياهها”.

ردّ الشركة ودعوة إلى الشفافيّة:

في بيانها الأخير، ردّت “تنّورين” بدعوة مفتوحة إلى جميع وسائل الإعلام لأخذ عينات من منتجاتها مباشرة من الأسواق وفحصها في أي مختبر يختارونه، مؤكدة أنّ نتائج التحاليل ستثبت نقاء مياهها وسلامتها للإستهلاك. الشركة رأت في القرار استهدافاً غير مبرر، مشيرة إلى أن “العمل الجاد في لبنان يُقابل أحياناً باتهامات باطلة وهجمات غير مبرّرة”.

الملف الأوسع: من ينقّي مياه اللبنانيين؟

بعيداً من السجال بين شركة ووزارة، يفتح هذا الحدث الباب على مصراعيه أمام سؤال أكبر: من يراقب فعلياً نوعيّة المياه التي يشربها اللبنانيون؟!

فالحقائق الميدانيّة صادمة:

– مياه الريّ في العديد من السهول تُضخ من مصادر ملوّثة ومختلطة بمياه الصرف الصحي.

– شبكات المياه المنزلية تعاني تسرّبات وخلطاً متكرراً مع مجارٍ قديمة ومهترئة، تُضخ في المنازل من شبكاتٍ متهالكة مختلطة بالمجارير وطعمها المالح.

–  المياه التي تُباع في غالونات بأحياء لبنان، وتلك التي تُعبّأ في محلات “الفلترة”، تفتقر إلى أبسط معايير التعقيم والمراقبة الصحية، أليست أولى بالفحص والمراقبة؟!

لنتحدث بصراحة: المواطن اللبناني يشرب ماءً ملوثاً منذ سنوات، سواء من السيترنات أو من الخزان أو من القنينة.

ما يختلف فقط هو من يبيع هذا الماء، ليس فقط نوعيته، حتى قوارير المياه البلاستيكية التي تتكدس تحت أشعة الشمس في الشوارع والسوبرماركت، تتحول مع الوقت إلى قنابل صحيّة صامتة، نتيجة التفاعل الكيميائي بين البلاستيك والحرارة، كما حذّر مراراً وتكراراً الأطباء والخبراء.

المشكلة لا تقتصر على تلوّث المياه فحسب، بل ايضاً من الفواتير الباهظة، وعبء شراء الصهاريج ومياه الشرب، حتى صار الحصول على الماء مكلفًا إلى حدّ مرهق

الاستنسابية في الإجراءات:

اللبنانيون يتساءلون: لماذا تُستهدف “تنّورين” وحدها من دون غيرها؟

إذا كانت الحملة وطنيّة لحماية المستهلك وصحته، فلماذا لا تشمل جميع شركات المياه في السوق، من دون استنسابيّة أو انتقائيّة!؟ فالمياه ليست سلعة عادية، بل هي عنصر الحياة الأساسيّة، وتطال كل بيت وكّل عائلة، من الشرب إلى الطبخ والاستحمام.

بين الحقيقة والمسؤولية

لا أحد فوق المحاسبة، ولا شركة بمنأى عن المساءلة، لكن العدالة الصحيّة لا تُبنى على الظن، بل على التحليل العلميّ الشامل والشفافيّة الكاملة. فلبنان بحاجة إلى سياسة مائيّة وطنيّة تحمي صحة المواطنين بعيداً من المصالح والضغوط.

فغياب الدولة منذ سنوات والتمنيّ بعودتها في هذا العهد، تتطلق على الوزارات المعنيّة أن تضع خطة وطنية شاملة لمراقبة المياه من المصدر إلى المستهلك، وان لا يكون التحرك على وقع الضجيج الإعلامي، وصدور قرارات متسرّعة، تُرضي الرأي العام للحظة، لكنها لا تُغيّر شيئاً في الواقع.

الحماية الحقيقية للمواطن لا تكون بإقفال شركة من هنا، وأخرى من هناك، بل بفحص شامل لكلّ مصادر المياه، وبنشر النتائج للرأي العام بشفافيّة تامّة، بعيداً من المصالح والمحسوبيات.

في الختام، قد تكون قضيّة “تنّورين” فرصة، لا لإعدام سمعة شركة، بل لإحياء النقاش حول إدارة المياه في لبنان، من المنبع إلى القنينة، لأنّ ما يهمّ اللبناني اليوم ليس الاسم التجاريّ، بل أن تكون المياه التي تصل إلى منزله نظيفة، مراقبة، وآمنة فعلاً — لا في الشعارات فقط.

نادين شلهوب