بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
يحمل لبنان جرح الوصاية السوريّة العميقة، وتحمل سوريا جرح انخراط “الحزب” في سفك الدم السوريّ منذ 2011. بين هذين الجرحين يبرز الموقف الأخير للرئيس السوري أحمد الشرع الذي قال فيه إنّه يضع الانتقام خلفه، وإنّه يريد بين البلدين، صفحة بيضاء وذاكرة نقيّة تطرد ما درجت عليه العلاقات.
بدا لي الرئيس السوريّ، في الحديث الذي جمعني به مع نخبة إعلاميّة وبحثيّة زارته في دمشق، مستعجلاً لفتح باب مراجعة صريحة للعلاقات اللبنانية – السورية، على قاعدة التعادل في الجراح، والاشتراك في مأساة واحدة أنتجها نظام الأسدين وحلفائهما في لبنان.
اختصر حافظ الأسد العلاقات بين البلدين إلى بندٍ وحيدٍ هو بند “الجيوبوليتيك”. لم يحضر لبنان في ذهنه إلّا جزءاً من خريطة أكبر، ولم ينظر إليه إلّا من زاوية موقعه وحدوده وكونه خطّ تماسّ مباشر مع إسرائيل، ونقطة تقاطع مع تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي، وبصفته منفذاً بحريّاً ضروريّاً، وحاجزاً يقي سوريا من أيّ ارتدادات إقليميّة. لم يكن البلد سوى شريط جغرافيّ يجب ضبطه لضمان أمن دمشق الإقليميّ وحماية “الدور السوريّ”.
الفرق بين الأسدين
بدَّل الوريث بشّار الأسد مقاربة دمشق السائدة منذ 1970.
لم يكتفِ بالجغرافيا الواسعة، بل دخل عميقاً في نسيج الجغرافيا السياسية والاجتماعية الداخليّة، وحوّل البلد إلى ساحة تلاعب بالمكوّنات وعلاقاتها وتوازناتها وثوابت زعاماتها.
بشّار، الذي ورث نظاماً هشّاً وشرعيّة محدودة، سعى إلى أن يجعل من لبنان جزءاً من عناصر قوّته، من خلال التلاعب بالانقسامات اللبنانية، والرهان شبه الحصريّ على “الحزب”. ففي حين جيَّر الأب لبنان لحماية “دور النظام” جيَّره الابن لحماية “بقاء النظام”. وما لبث أن تحوّل لبنان من ورقة سوريّة إلى أن يكون هو وسوريا ورقة إيرانيّة، مع فقدان دمشق التدريجيّ لاستقلاليّة قرارها أمام نفوذ طهران.
لا يمكن أن تغيب هذه الخلفيّة الثقيلة، عن أيّ تفسير لكلام الرئيس الشرع عن “التنازل عن الجراح” “وتنقية الذاكرة”. والأهمّ أنّ الشرع لا يكتفي بالقول إنّ العلاقة اللبنانية السوريّة لا يمكن أن تُبنى على الماضي وجراحاته المتبادلة، بل يدعو صراحة إلى علاقة “من دولة إلى دولة” ربّما للمرّة الأولى منذ استقلال البلدين، على أساس التكامل الاقتصادي وتناغم الأدوار الخدميّة.
فليس الحديث عن المرافئ والطاقة والبنى التحتيّة، طرحاً لشراكات تقنيّة وحسب، بل تأسيسٌ لعقد سياسيّ جديد يمكن له أن يقلب المعادلة التي حكمت العلاقة اللبنانية-السورية لعقود.
يلغي تركيز الرئيس السوري على ضرورة تقليص التوتّرات الإقليمية، سرديّةً سوريّة مديدة قامت على افتراض أنّ حصانة النظام في دمشق لا تتحقّق إلّا بتوسيع السيطرة على لبنان والتدخّل في الأردن والتحكّم بالملفّ الفلسطينيّ، ومناكفة العراق.. إلخ. وعليه يطرح مدخلاً لإعادة تعريف السيادة بوصفها وظيفة مدنيّة صرفة، والعلاقات بين الدول بوصفها شبكة مصالح متوازنة ومترابطة مع تكتّلات اقتصاديّة إقليميّة أوسع، لا أدوات ضغط متبادلة.
بيد أنّ أيّ مقاربة للعلاقات اللبنانيّة-السوريّة لا يمكنها القفز فوق الثقل البنيويّ الذي شكّله ويشكّله “الحزب” في البلدين أو فوق ضرورات الوفاق الوطني في سوريا الجديدة.
ثمّة مصالح استراتيجيّة مشتركة بين بيروت ودمشق في استثمار انتهاء دور “الحزب” كمكوّن أمنيّ في سوريا، وإضعاف فاعليّته السياسية المذهبية في لبنان. توضح هذه الزاوية البعد الاستراتيجي لكلام الرئيس الشرع عن إسقاطه أيّ استعدادات انتقاميّة تؤدّي إلى تدخّل عسكريّ سوري في لبنان أو تثوير بيئات سنّيّة لبنانيّة ضدّ “الحزب”.
يُضعف هذا المنطق سرديّة التعبئة الداخلية التي يعتمدها “الحزب” منذ فترة حول التهديد الوجوديّ للشيعة في لبنان، والتي يستخدمها مظلّةً تبريريّةً دائمةً للإبقاء على سلاحه والتهيئة لتجديد التدخّل في سوريا إن لاحت نذر الفوضى فيها.
مصلحة لبنان في نجاح سوريا
ما يهدّد الشيعة، كما يهدّد السنّة والمسيحيّين والدروز والعلويّين، هو ذوبان فكرة الدولة وتحوُّل الجغرافيا إلى مساحة وظائف أمنيّة وممرّات نفوذ.
في المقابل، كلّما نجح الرئيس أحمد الشرع في توسيع الصفة التمثيليّة للمعادلة السياسية في سوريا، بما يشمل الدروز في الجنوب، والأكراد في الشمال الشرقي، والمجتمعات العلويّة والسنّية في الساحل والداخل، انحسرت فعليّاً المساحات التي تتغذّى منها سرديّة “الحزب”، وتكشّفت هشاشة منطقه القائم على “التهديد الوجوديّ” و”حماية الأقلّيّات”، تحت مظلّة خطاب “المقاومة”.
“الحزب”، وإن بدا خارج المعادلة السوريّة اليوم، هو في الواقع أكبر مستفيد من الحلقات الدمويّة في السويداء والساحل، ومن أيّ غياب لتوازن وطنيّ داخليّ سوريّ.
عليه ليس نجاح الشرع في بناء معادلة سوريّة تعدّديّة تمثيليّة، شأناً سوريّاً داخليّاً فحسب، بل هو ضربة مباشرة لمحور قائم على استمرار ضعف الدولتين في سوريا ولبنان.
مصلحة لبنان في نجاح التجربة السوريّة بحجم التحدّيات ذاتها، ومصلحة سوريا بنهوض لبنان لا لبس فيها.
لا يملك لبنان ترف النأي بنفسه عن لحظة التشكّل الجديدة في دمشق، ولا تملك دمشق ترف العودة إلى العقل السياسي الذي أضعف البلدين وفجّر الكثير من المساحات المشتركة بينهما.
في دمشق شريكٌ ناشئ للمعادلة السياسيّة الناشئة في بيروت. الباقي جهود جبّارة يحتاج إليها صنّاع القرار في العاصمتين.
نديم قطيش