المحامي أسامة العرب
تشهد الساحة الدولية حراكاً دبلوماسياً متجدداً يضع قضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومنحها العضوية الكاملة في الأمم المتحدة في صلب الاهتمام العالمي مرة أخرى. ويأتي هذا الزخم في وقت تتصاعد فيه الدعوات الدولية لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإيجاد حل عادل ودائم يستند إلى مبدأ الدولتين، وفي ظل استمرار المأساة الإنسانية في قطاع غزة وتصاعد التوترات في الضفة الغربية. حيث تقود فرنسا والمملكة العربية السعودية جهوداً لعقد مؤتمر دولي في نيويورك يهدف إلى حشد الدعم للاعتراف بفلسطين، بينما تعلن دول أوروبية عن نيتها اتخاذ هذه الخطوة قريباً. ومع ذلك، لا تزال الطريق نحو العضوية الكاملة محفوفة بالعقبات السياسية والقانونية، أبرزها الموقف الأمريكي الغامض والرفض الإسرائيلي القاطع.
ولذلك سنتناول المستجدات الدبلوماسية، والإطار القانوني الدولي الحاكم، والعقبات الرئيسية التي تواجه مساعي فلسطين للحصول على الاعتراف الكامل في المنظمة الدولية.
زخم دبلوماسي متجدد: تحركات أوروبية وعربية
يأتي الزخم الحالي مدفوعاً بتحركات ملحوظة من دول أوروبية وعربية. فقد أعلن رئيس وزراء مالطا، روبرت أبيلا، عن نية بلاده الاعتراف بدولة فلسطينية خلال شهر حزيران/يونيو المقبل، في خطوة من المتوقع أن تتم خلال المؤتمر الدولي المرتقب في نيويورك برئاسة فرنسية – سعودية، والذي يهدف إلى الترويج لحل الدولتين. وتجدر الإشارة إلى أن مالطا، التي تستضيف سفيراً لفلسطين، كانت قد صوتت لصالح منح فلسطين العضوية الكاملة في مجلس الأمن في أبريل الماضي، لكنها لم تتخذ خطوة الاعتراف الرسمي بعد. وعلى صعيد متصل، برز موقف أوروبي مشترك محتمل، حيث أشار رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، إلى أن فرنسا وبريطانيا وكندا قررت الاعتراف معاً بالدولة الفلسطينية، مؤكداً أن “هذا التحرك الذي انطلق، لن يتوقف”. واعتبر مراقبون هذا الموقف، الذي تم تأكيده وسيتم تطبيقه، يمثل تغيراً استراتيجياً في تعاطي هذه الدول الغربية مع القضية الفلسطينية، ورفضاً لما يجري في قطاع غزة.
أما من جانبها، تلعب المملكة العربية السعودية دوراً محورياً في هذه الجهود؛ فبالإضافة إلى رئاستها المشتركة للمؤتمر القادم في نيويورك، أكد وفدها في الاجتماع التحضيري للمؤتمر أن السلام في المنطقة “قد تأخر كثيراً” ويتحقق ببدء الاعتراف بدولة فلسطين. وهنا، تشدد الرياض باستمرار على أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو حجر الزاوية لتحقيق الأمن والاستقرار، وأن دعم حل الدولتين يمثل موقفاً راسخاً للمملكة.
وبالتالي، يهدف المؤتمر الدولي في نيويورك، الذي يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بحسب تقارير، لتحديد يوم 18 حزيران/يونيو كموعد لإعلانات الاعتراف، إلى حشد أكبر عدد ممكن من الاعترافات الدولية وتوفير دعم سياسي لحل الدولتين.
الإطار القانوني: معايير الدولة وعضوية الأمم المتحدة
تستند المطالبة الفلسطينية بالاعتراف والعضوية الكاملة إلى أسس في القانون الدولي. حيث تحدد اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933، والتي يعكس جزء كبير منها القانون الدولي العرفي، أربعة معايير لوجود الدولة: سكان دائمون، إقليم محدد، حكومة، والقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى. ورغم أن الاحتلال الإسرائيلي يعيق سيطرة فلسطين الفعلية الكاملة على إقليمها، فإن غالبية فقهاء القانون الدولي والدول (149 دولة تعترف بفلسطين) يرون أن الاحتلال لا ينفي وجود الدولة قانوناً، خاصة مع وجود سكان وحكومة معترف بها دولياً وقدرة على التفاعل الدبلوماسي.
كما تعتمد الغالبية العظمى من الدول على النظرية الإعلانية للاعتراف، والتي تفيد بأن استيفاء معايير الدولة هو ما يحدد وجودها كحقيقة قانونية، وأن اعتراف الدول الأخرى هو مجرد إقرار بهذا الواقع.
بناءً على ذلك، فإن الاعتراف الواسع بفلسطين يدعم موقفها كدولة قائمة بموجب القانون الدولي.
أما عضوية الأمم المتحدة، فتنظمها المادة 4 من الميثاق، التي تشترط أن تكون الدولة “محبة للسلام” وقادرة وراغبة في تنفيذ التزامات الميثاق. ويتطلب القبول توصية من مجلس الأمن (بموافقة 9 أعضاء دون فيتو من الدول دائمة العضوية) وقراراً من الجمعية العامة بأغلبية الثلثين. ولقد حصلت فلسطين على وضع “دولة مراقب غير عضو” عام 2012، لكن طلبها للعضوية الكاملة اصطدم مؤخراً بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن؛ فيما تعزّز قرارات الأمم المتحدة المتعددة، التي تؤكد على حق تقرير المصير وتدين الاحتلال والمستوطنات (مثل قرار 2334)، والرأي الاستشاري الأخير لمحكمة العدل الدولية (يوليو 2024)، الذي أكد عدم شرعية الوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلة وحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
العقبات السياسية والقانونية: الفيتو الأمريكي المحتمل والرفض الإسرائيلي
على الرغم من الدعم الدولي الواسع والأسس القانونية القوية، تواجه مساعي فلسطين عقبات كبيرة. والعقبة السياسية الأبرز هي استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، والذي يعكس موقفاً تاريخياً يربط الاعتراف والعضوية بالتوصل إلى اتفاق تفاوضي مع إسرائيل. ورغم أن واشنطن أبلغت إسرائيل بأنها لن تضغط على الدول لعدم المشاركة في مؤتمر نيويورك، فإن موقفها داخل مجلس الأمن يظل العائق الرئيسي أمام صدور توصية بالقبول.
تضاف إلى ذلك المعارضة الإسرائيلية الشديدة، التي ترفض أي اعتراف أحادي وتعتبره تهديداً. وقد وصلت هذه المعارضة إلى حد تهديد وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بضم مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن رداً على الاعتراف الدولي، وهو ما يزيد من الضغوط السياسية على الدول. كما أن غياب الإجماع التام بين القوى الغربية الكبرى، والانقسام الفلسطيني الداخلي (رغم أن القانون الدولي لا يعتبره سبباً لنفي الدولة تحت الاحتلال)، يمكن أن تستخدم كذرائع لإعاقة التقدم نحو العضوية الكاملة.
أما من الناحية القانونية-الإجرائية، يبقى شرط الحصول على توصية من مجلس الأمن هو العائق المباشر داخل الأمم المتحدة، وهو مرتبط بشكل وثيق بالمواقف السياسية للدول دائمة العضوية.
بين الأمل والتحديات
يمثل الحراك الدبلوماسي الحالي، بقيادة أوروبية وعربية، فرصة متجددة لتعزيز مكانة الدولة الفلسطينية على الساحة الدولية ودفع الجهود نحو تحقيق حل الدولتين. وإن الاعتراف المتزايد بدولة فلسطين، المدعوم بقرارات الشرعية الدولية ورأي محكمة العدل الدولية، يعكس إجماعاً عالمياً متنامياً حول عدالة القضية الفلسطينية وضرورة إنهاء الاحتلال. ومع ذلك، فإن تحقيق العضوية الكاملة في الأمم المتحدة لا يزال يصطدم بعقبات سياسية وقانونية كبيرة، تتطلب إرادة سياسية دولية قوية، خاصة من جانب الولايات المتحدة، لتجاوزها. لكن يبقى الأمل معقوداً على أن يؤدي الضغط الدبلوماسي المستمر والتحركات الدولية المنسقة، مثل مؤتمر نيويورك، إلى تغيير المواقف وفتح الطريق أمام فلسطين لتأخذ مكانها كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي، كخطوة أساسية نحو تحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة.
المحامي أسامة العرب