متى تعترف إيران أنّها خسرت لبنان؟

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

حين زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لبنان في حزيران الماضي، كان قد سمع موقفاً لرئيس الحكومة نوّاف سلام يستشرف به “انتهاء زمن تصدير الثورة الإيرانية”. وحين زار الوزير قصر بعبدا آنذاك، أبلغه الرئيس جوزف عون أنّ “لبنان تعب من حروب الآخرين على أرضه”. 

في حزيران جاء رجل الدبلوماسية الأوّل في إيران آنذاك آتياً من القاهرة، فيما قدم الأمين العامّ للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى لبنان من بغداد، وكأنّ زيارة بيروت محجّاً فاصلاً في حراك الدبلوماسية الإيرانية في عواصم المنطقة. ويسهل لأيّ مراقب أن يستنتج توسّل إيران تأكيد حضورها في لبنان لِما للأمر من أهميّة قصوى في سياسة طهران الخارجية، لا سيما في علاقاتها مع الإقليم.

يتذكّر عراقجي ولاريجاني، ورئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، بحسرة ما مارسوه من غطرسة وتكبّر حين تعاقبوا على زيارة البلد في خريف عام 2024 رافضين وقف إطلاق النار في لبنان قبل وقفه في قطاع غزّة. كانت طهران قد استنتجت هول مصاب حزبها وارتخاء قبضته عن قرار بيروت، فأرسلت تذكّر من نسي أنّ قرار الحرب والسلم في لبنان عنوانه في إيران. تعاقبت الشخصيات نفسها بعد أشهر على زيارة لبنان، لأعذار مختلفة، زاعمةً الارتضاء بانتعاش دولته، مُقسمةً احترام استقلال قراره، واعدةً بعدم التدخّل في شؤونه.

السّفارة الأميركيّة تُراقب؟

أتى لاريجاني إلى لبنان وهو يعرف أنّ البلد تغيّر، وأنّ إيران فقدت إلى غير رجعة ذلك الوهج الذي وجده الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد حين زار لبنان عام 2010. حينها وجد في استقباله زحف “جمهور المقاومة” الذي عمل، بهندسة دقيقة من قبل “الحزب”، على جعل المناسبة عيداً تجوز فيه الأهازيج وطقوس النصر العظيم. لم يُفاجأ لاريجاني هذه الأيّام بأنّ لبنان بات يتعامل مع زيارات مبعوثي طهران بطريقة عاديّة تميل إلى البرودة الدبلوماسية، وأنّ لبنان لم يعد بيئة حاضنة للجمهورية الإسلامية ولا امتداداً لها في المنطقة.

بدا أنّ لبنان لم يستمع إلى ما جاء الضيف الإيراني يحمله، بل حمل إلى الضيف ما يجب أن يسمعه. حتّى إنّ لاريجاني فشل في تصريحاته في إيضاح المبتغى الذي جاء من أجله إلى البلد، بحيث لم يسمع اللبنانيون إلّا كلاماً إنشائياً شعبوياً بشأن دعم إيران للبنان وشدّ أزر “مقاومته”. ولئن سمع في “بعبدا” و”السراي” كلاماً واضحاً واحداً يرفض ما اقترفته طهران من مواقف رافضة لقرارات الحكومة اللبنانية بشأن حصريّة السلاح بيد الدولة، فإنّ ذلك كان منتظراً وكان لاريجاني يتوقّعه وإن حاول التقليل من أهميّة وقعه عليه، وراح يوزّع بعدها مشاهد الضحك والحبور.

نجاح زيارة لاريجاني أو فشلها ستُظهر أحدهما مواقف الثنائي الشيعي من السياق الحكومي المقبل وخطّة الجيش اللبناني بشأن تسلّم السلاح غير الشرعي. ولئن كان انسحاب الوزراء الشيعة من جلسة 5 آب التاريخية ذا ضجيج خافت لا يهوّل باستقالة ويقترح أعذاراً ركيكة، غير أنّ مستقبل تلك المواقف قد لا تكون بعيدة عمّا حمله لاريجاني للثنائي من طهران. وربّما تحتاج طهران في رسائلها إلى واشنطن أن تكون لزيارة رجلها الزائر في بيروت مفاعيل تصعيد محسوب تحمل إيران وحدها مفاتيح إيقاعاته.

راقبت السفارة الأميركية في لبنان زيارة الرجل ومواقف قادة البلد ومزاج الطبقة السياسية فيه. جاء لاريجاني قبل أيّام من زيارة قيل إنّها ستكون ثنائية مشتركة يقوم بها مبعوثا الولايات المتّحدة، توم بارّاك ومورغان أورتيغاس. قالت الأنباء إنّهما حضرا في باريس اجتماعاً ناقش سبل دعم الجيش وحكومة لبنان على مواجهة التحدّيات في السياسة والأمن والدفاع. ولئن أرادت طهران من زيارة لاريجاني، وممّا صدر في طهران من مواقف رافضة لورقة بارّاك ومؤيّدة لموقف الأمين العامّ لـ”الحزب” الرافض لتسليم السلاح، أن تكون ندّاً منافساً للولايات المتّحدة في لبنان، فلا يبدو أنّ واشنطن قلقة من ذلك أو متوجّسة من حدوثه.

خيمة عالميّة فوق لبنان

فقدت إيران لبنان نهائيّاً. لم يعد حجر زاوية في “محور المقاومة”. فقدت إيران إطلالة على إسرائيل من جنوب لبنان كانت تمنّي النفس أن تمسك من خلالها بمفاتيح الحلّ والربط في كلّ المنطقة. فقدت أيضاً إطلالة جيوستراتيجيّة على شرق البحر المتوسّط وشبكات الطاقة في مياهه، كان من المفترض أن تجعلها دولة متوسطيّة بامتياز. يعرف لاريجاني ذلك وإن أوحت مواقفه الحائرة بغير ذلك. في بعض القول احترام لسيادة لبنان وقراره ونأي بالنفس عمّا صدر من طهران من “آثام مضادّة”، وفي قول آخر أنّ بلاده لن تتخلّى عن “الحزب” في لبنان ولن تخلي لبنان لأعدائه.

بات قرار بيروت يصدر من بيروت من خلال جدل لبناني – لبناني وعبر مؤسّسات دستورية منتخبة. يستنتج موفد إيران انتهاء زمن أبعدت به طهران لبنان عن محيطه العربي والإقليمي وفخّخت علاقاته مع العالم. يستنتج لاريجاني وقبله عراقجي ارتفاع خيمة سعودية أميركية فرنسية فوق لبنان تسهر بالتفصيل على إنهاء وصاية طهران على لبنان، كما تسهر تماماً، للمفارقة، على جعل التحوّلات في سوريا نهائيّة تُفقد إيران طريقها العابرة من طهران إلى بيروت.

محمد قواص