مصباح العلي
بعيدًا عن الحاجة الملحّة للإنماء في عكار المنسية، يبقى الحديث عن إنجاز مطار القليعات (رينيه معوّض) أكثر من مشروع عمراني. إنه بصيص أمل قد يفتح أمام لبنان نافذة على نهضة إعمارية طال انتظارها، لكنّه في الوقت نفسه يثير أسئلة صعبة عن قدرة الدولة على تحويل الأحلام إلى واقع.
جذور تاريخية
تعود قصة المطار إلى ستينيات القرن الماضي، حين استُخدم بدايةً من قبل شركات نفط لنقل موظفيها، قبل أن يتسلّمه الجيش اللبناني عام 1966 ويحوّله إلى قاعدة عسكرية معزَّزة بالمدرج والمستودعات. بعد حرب 1967 جرى تأهيله، وظلّ في الأساس مطارًا دفاعيًا.
خلال سنوات الحرب الأهلية، برز دوره المدني بشكل محدود. ففي عام 1989 سُيّرت منه رحلات مدنية تابعة لطيران الشرق الأوسط نحو العاصمة بيروت، في وقت كانت الطرق البرية مقطوعة. آنذاك حمل المطار اسم الرئيس الشهيد رينيه معوّض، بعدما تحوّل إلى رمز في مرحلة مليئة بالاضطرابات.
لكن سرعان ما تراجع دوره مجددًا إلى الاستخدام العسكري فقط، ومع العدوان الإسرائيلي عام 2006 تعرّض المدرج إلى أضرار جسيمة أُعيد ترميمها لاحقًا من دون أن يترافق ذلك مع خطة جدية للتشغيل المدني.
مطار في منطقة بلا بنى تحتية
اليوم يُطرح السؤال: كيف يمكن أن يتحقق مشروع دولي ضخم في منطقة ما زالت محرومة من أبسط الخدمات؟ هل يُعقل أن يستقبل المطار رحلات دولية فيما الطرق المؤدية إليه مهترئة، والكهرباء مقطوعة، وشبكات المياه والصرف الصحي متداعية، والتلوث يخيّم على البيئة المحيطة؟
أي معنى لمطار عصري إن كان السائح سيخرج من صالة الوصول ليجد نفسه على طرقات وعرة متجهًا نحو بيروت أو طرابلس؟ وأي نهضة اقتصادية يمكن أن تولد من دون رؤية شاملة تتضمن تحسين البنى التحتية وربط المطار بمحيطه الإنمائي والاجتماعي؟
تحولات اجتماعية محتملة
يبقى أيضًا البعد الاجتماعي: هل يمكن أن يشكّل المطار فرصة لإحداث تغييرات في مجتمع عكاري ما زال محكومًا بمنظومة تقليدية ذكورية وقبلية؟ هل سيخلق المشروع دينامية جديدة تفتح المجال أمام مشاركة أكبر للمرأة والشباب في الاقتصاد؟ أم سيبقى الاستثمار محصورًا في أيدي قلة تستفيد دون أن يطال الخير عموم السكان؟
جدوى اقتصادية أم وهم جديد؟
المطار من الناحية النظرية قادر على خلق فرص عمل، واستقطاب استثمارات في السياحة والخدمات اللوجستية، بل وربما جعل عكار نقطة وصل بين لبنان وسوريا وتركيا وأوروبا. لكن كل ذلك يبقى حبراً على ورق إذا لم تُرفق الفكرة بخطة واضحة لتأهيل الكفاءات المحلية وتدريبها، بدل استقدام العنصر البشري من خارج المنطقة.
بين حلم النهضة وواقع العجز
الحقيقة أن مطار القليعات ليس مجرد مدرج للطائرات، بل هو امتحان لقدرة الدولة على كسر دوامة التهميش والفساد. فإذا اكتفت السلطة بالوعود وبمشروع واجهة دون إصلاح شامل للبنى التحتية والحوكمة، فإن الحلم قد يتحول إلى تراجيديا جديدة تضاف إلى سلسلة وعود لم تتحقق.
إن عكار تستحق أكثر من رمز انتخابي أو شعار سياسي. تستحق خطة متكاملة تعيد دمجها في النسيج الوطني وتمنح أبناءها فرصًا حقيقية في التنمية. والمطار قد يكون بداية هذا الطريق، شرط أن يُبنى على أسس واقعية، لا على سراب آخر يضاف إلى خيبات اللبنانيين.
مصباح العلي