بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
من محاسن ما يقوله “الحزب” اليوم، وللمرّة الأولى بهذا الوضوح، أنّه يعيد النقاش إلى موضعه الصحيح، بلا رتوش “وطنية” ولا شعارات إنشائيّة.
حين يُساوى السلاح بالحياة، كعبارة “الموت ولا تسليم السلاح”، ويُرفَع إلى مرتبة المقدّس، وتُلبَس المعركة بشأنه لبوس كربلاء، يصير ذلك اعترافاً بأنّه سلاح فئة، ويُجعَل كلّ من يطالب بحصر السلاح بيد الدولة “يزيداً” جديداً، أيّاً يكن موقعه: رئيس حكومة، رئيس جمهورية، أو تيّاراً سياسيّاً. هكذا تُستبدَل الشراكة التي ينصّ عليها الدستور اللبناني، ببيعةٍ للسلاح، ويُختزل العيش المشترك إلى علاقة غلبة وإخضاع.
وإلّا فما معنى، تحذير الشيخ قاسم من أنّ قرار حصريّة السلاح يفتح باب حربٍ أهليّة؟ فمَن سيقاتل مَن؟ ولأيّ غاية؟ حقيقة الأمر أنّ الدعوة المستمرّة إلى الاعتراف بسلاح الميليشيا والإقرار باحتكار فئة له، لا نزع السلاح، تعدّ أقصر الطرق إلى الحرب الأهليّة.
هندسة التّعايش
من حسنات هذه الصراحة، على قسوتها، أنّها تحوِّل معركة الشعارات إلى معركة تأخّرت حول معنى لبنان ودستوره والمواطنة وضوابط الحياة السياسية فيه.
حين يعلن الشيخ قاسم أنّ سلاح “الحزب” هو عنصر قوّة للبنان أساسيّ، فإنّه يعيدنا إلى الأصل الذي قامت عليه التجربة اللبنانية، بوصفها دولةً تُعرَّف بتعدّدها وتواضع أدوات القوّة فيها، لا منصّةً لتوازنات إقليمية تُدار بفائض السلاح على حساب الدستور والوفاق. وربّما هوس “الحزب” بما يسمّيه قوّة لبنان، يستدعي إعادة الاعتبار للفكرة المؤسِّسة للكيان أن “قوّة لبنان في ضعفه”، لا من باب الرومانسية، بل كمدخل لقراءةٍ تأسيسيّةٍ للمسألة اللبنانية، وعلاقات الجماعات وحدود القوّة الممكنة في بلد لا يحتمل الغلبة.
الضعف، الحاصل تاريخيّاً على أقذع عبارات الهجاء في قاموس “الحزب”، ليس عطباً أخلاقيّاً ولا عجزاً إداريّاً أو سياسيّاً، بل هندسة تعايش في مجتمع متعدّد، تمنع تحوُّل الدولة إلى جهاز قهر لطائفة ضدّ أخرى. وحده منطق التسوية يضمن حقوق الجميع ويمنع سيادة المشروعات الأحاديّة. هنا أصل الخلاف مع “الحزب”، الذي يرى أنّ قوّة لبنان في سلاح فئة، ولو غصباً عن الدستور والشركاء، في حين أنّ التجربة التاريخية تفيد أنّ قوّة لبنان هي في الشرعية الدستوريّة وتوسعة الإجماعات الأهليّة.
لم يكن من باب الصدفة أن يرفع الأمين العامّ لـ”الحزب” الراحل حسن نصرالله بعد حرب تمّوز 2006، شعار “قوّة لبنان في مقاومته”، محاولاً الاستفادة من الحرب كاستثناءٍ ظرفيّ بهدف فرض عقيدة سياسية جديدة للدولة، تقوم على القبول القسريّ بسلاح خارج قرار الشرعيّة، وسياسة خارج الإجماع الوطني، وتقديم “الحاجة إلى السلاح” على النصّ الدستوريّ.
تمّ في سياق هذه المعركة تعطيل المؤسّسات لأنّها تعارضت مع حسابات السلاح، وشُلَّ الاقتصاد، واُحتُلَّ وسط العاصمة، وتآكلت الثقة السياسية والاقتصادية بالدولة عند الداخل والخارج، وتصدّعت فكرة العيش المشترك نفسها، حين انقضّ السلاح على الداخل في السابع من أيّار 2008.
خسرنا في هذا السياق الحربيّ، البادئ منذ اتّفاق القاهرة 1969، ميزان الضعف المتوازن، من دون أن نربح ميزان القوّة العاقل.
والحال، فإنّ العودة إلى مقولة “قوّة لبنان في ضعفه” لا تحمل دعوةً إلى الاستسلام، بل إلى تجديد قيدٍ حميدٍ على شهوات الغلبة، رافق البدايات المشرقة للتجربة اللبنانية. فلا قوّة مستدامة، في بلدٍ تعدّديّ، إلّا قوّة الشرعيّة، أي القوّة التي تنشأ من التوافق العامّ، لا من فوهة البندقية.
التوزيع العادل للضعف، لا للقوّة، هو الذي ضمِن اشتغال المؤسّسات اللبنانية ووفّر بيئة حياةٍ مشتركةٍ تسمح بالاختلاف من دون اقتتال. ليس أدلّ على ذلك من أنّ الأسباب الواقعية للحرب الأهليّة اللبنانية ليس بينها أيّ بند جدّي يتعلّق بتوازنات الشراكة السياسية وطلب تعديلها، بل تمحورت كلّها حول الموقف من سلاح منظّمة التحرير الفلسطينية. ما حصل هو انتحال صفة تصحيح الشراكة في النظام السياسي لتشكّل غطاءً للموقف الأيديولوجيّ المؤيّد للسلاح الفلسطيني. منذ تلك اللحظة، لم تُخَض المعارك الكبرى في لبنان بعقل “تعديل الدستور” أو “إصلاح النظام”، بل بعقل “القضايا الكبرى”، أي تحرير فلسطين ومواجهة إسرائيل ومقاومة الهيمنة الأميركية. وفي كلّ مرّة صار فيه شعار “قوّة لبنان” اسماً حركيّاً لهيمنة فريق، انهار التوازن، وتقزّمت الدولة إلى مجرد هيكل إداريّ يتوسّل “الاستقرار” ولو خلافاً للدستور والمواثيق.
صراحة مقابِلة
للمرّة الأولى منذ عام 1969، يكون احتكار السلاح قراراً لا شعاراً، وهو ما ربّما يفسّر اضطرار “الحزب” إلى الذهاب بوضوح موقفه إلى أبعد الحدود، مهدّداً بالحرب الأهلية لحماية سلاحه.
كي لا يبقى العنوان هو السلاح، من المفيد إيضاح أنّ ما نحن بإزائه في لبنان، هو أبعد من مسارٍ لردّ جميع أدوات العنف إلى الدولة، بجدولةٍ زمنيّةٍ متوافقٍ عليها، وبضماناتٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ.
صراحة “الحزب” تستدعي صراحةً مقابلةً، وهي أنّ حصريّة السلاح مقدّمة لاعتماد الحياد سياسةَ دولة وهويّةَ وطن. فمن خلال ترتيبات خفض الاشتباك الإقليمي على الأرض اللبنانية، كما بدا واضحاً في موقف الدولة خلال زيارة مستشار المرشد الإيراني علي لاريجاني، يُعاد الاعتبار إلى “الضعف” اللبناني كسياجٍ واقٍ، وتُمنع القوّة الفئوية فيه من أن تكون باباً خلفيّاً لتصريف صراعات الغير.
المعضلة اللبنانية اليوم أخطر من مجرد تنازع جماعات على الحصص أو الصلاحيّات، كما في قبرص أو البوسنة. فـ”الحزب” لا يخوض معركة داخلية لتحسين موقع طائفته في معادلة الشراكة، بل يشكّل امتداداً عضويّاً لمركز سياسي خارج الدولة هو طهران. سلاحه ليس أداة لتعديل ميزان داخلي، بل ذراع لمشروع جيوسياسي يتجاوز لبنان ويتّصل مباشرة بالاستراتيجية الإقليمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهذا ما يجعل من لبنان دولةً رهينة، لا دولةً ضعيفة وحسب، ومن الوطن منصّةً تُستنزَف في لعبة النفوذ الإقليمي والأيديولوجي التي تلعبها طهران.
لذلك الإصرار على تعريف “قوّة لبنان” بفائض السلاح لا يجيب عن أسئلة لبنان، بل يلغي لبنان نفسه. يعطّل الدستور، ويفكّك الجماعات، ويضع البلد على حافة حربٍ أهليّةٍ يُتَّهم خصومُ السلاح بإشعالها فيما شروطها الفعليّة يصنعها بقاء السلاح.
قوّة لبنان الحقيقية في ضعفه المؤسِّس: في قدرته على أن يمنع الغلبة، وأن يصون التعدّد، وأن يجعل من الدستور والحياد لا من البندقية المرجع الأخير. كلّ ما عدا ذلك طريقٌ معبّدٌ إلى الفتنة، مهما تجمّل بخطاب “الحماية” و”الردع”.
من يريد لبنان قويّاً، فليقبل أوّلاً أنّه يقوى بشرعيّته الدستورية وحياده السياسي حصراً، لا بسلاح البعض فيه. فحياد لبنان أكثر من خيار سياسي، إنّه ضرورة وجوديّة.
نديم قطيش