بقلم د. ابراهيم العرب
دولة الرئيس الدكتور نواف سلام هو رجل المواقف الصلبة والجريئة، رجل الخطوات الصائبة والقرارات الحكيمة، وصاحب الرؤية التي لا تضلّ الطريق مهما كثرت المنعطفات. إنه رجل فريد بفكره، متميز بفعله، متفرّد بقراره بين رجال الدولة العظام، لما يحمل من أصول وطنية راسخة، وما يجمع بين نبل شخصي وانتماء صادق للبنان. لقد ازدانت مسيرته بتحليلات دقيقة ورؤى إنسانية وأخلاقية رفيعة المستوى، جعلته يتمايز عن كثير من السياسيين الذين اعتادوا تقديم مصالحهم الخاصة على حساب المصلحة الوطنية العليا.
هو رجل الحزم والعزم والإرادة الفولاذية، رجل البأس الشديد في أحلك الظروف وأصعب اللحظات، إذ يملك من الصلابة ما يجعله يقف بثبات أمام العواصف، ومن الحنكة ما يمكّنه من اجتياز أشد المنعطفات خطورة. يتمتع بسمو في الرؤية وبعد نظر يضافان إلى حصافته في الحكم واستقامته الشخصية، وهي صفات قلّما تجتمع في رجل واحد. لذلك يشعر خصومه دائماً بالانزعاج منه، لأنه يقف عائقاً أمام مصالحهم ونزاعاتهم، وكونه يثبت أن السياسة الحقيقية هي أخلاق قبل أن تكون حسابات.
ولأنه متمرّس في الاستراتيجيات الكبرى، فقد آثر في كثير من الأحيان أن يتخلى بطيبة خاطر عن تفاصيل التكتيكات اليومية لمن يتقنها، مكتفياً برسم الخطوط التنفيذية العريضة وصياغة الأهداف الوطنية المنشودة. بهذه الطريقة، استطاع أن يحافظ على موقعه كرجل قرار لا كرجل تفاصيل، وأن يبقى مرجعاً في تحديد المسارات الكبرى لا مجرد لاعب عابر في ساحة السياسة اللبنانية.
ومع أن لبنان بلد معقد بطبيعته الطائفية والسياسية، لم ينجُ الرئيس سلام من الحملات العشواء التي استهدفته مراراً، لكنه بقي ثابتاً على مبدأ الشرعية، متمسكاً بالحفاظ على هيبة الدولة وبسط سلطتها على كامل أراضيها. وكلما تصاعدت الأمواج العاتية، كانت تتحطم عند صخرة صموده، فهو الذي ترأس أعلى سلطة قضائية دولية في العالم، ولم يسمح يوماً أن تنال التجاذبات الداخلية من عزيمته أو من صلابته الأخلاقية. عزّة نفسه لا يساويها إلا كبرياؤه، وشجاعته لم تكن مجرد موقف عابر، بل التزام عميق بإحقاق الحق، من دون أن يرف له جفن أو أن يحيد عن الطريق القويم الذي رسمه لنفسه.
ولا يمكن التشديد بما يكفي على فرادة الرجل في الجمع بين صفة القاضي وصفة دولة الرئيس. فقد حافظ على مناقبيته القضائية بكل ما فيها من حياد ونزاهة، في الوقت الذي مارس فيه القيادة السياسية بما تحمله من حزم وحكمة. لم يعرف التسرّع في اتخاذ القرارات، بل كان ميالاً إلى التنظيم الدقيق، وإلى وضع خدمة الوطن فوق كل اعتبار شخصي أو محسوبي.
ولعل أبرز ما ميّز مواقفه في المرحلة الراهنة تمسكه الصارم بقرار مجلس الوزراء القاضي بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وحدها، وتكليف الجيش اللبناني بوضع خطة تنفيذية شاملة لذلك ضمن مهلة زمنية محددة. ففي وقتٍ ساد فيه التردد عند البعض، أو المساومة عند البعض الآخر، أصرّ الرئيس سلام على أن الدولة لا يمكن أن تنهض ما دام قرارها مرتهناً لسلاح خارج مؤسساتها الشرعية. هذا الموقف الصلب، على الرغم من الضغوطات الداخلية والخارجية التي مورست ضده، أكد أنه رجل لا يساوم على السيادة ولا يتهاون في مسألة وحدة القرار العسكري والأمني. لقد اعتبر أن الجيش اللبناني، بتركيبته الوطنية الجامعة، هو وحده المؤهل لحمل هذه المهمة الكبرى، وأن أي التفاف على هذا القرار سيؤدي إلى تكريس الانقسام وتعميق الأزمات.
أما في السياسة الخارجية، فقد ظل توجهه واضحاً وثابتاً: تحرير الأرض المحتلة، استعادة الأسرى، إعادة إعمار المناطق المدمّرة، وبناء وحدة وطنية صلبة في بلد وصل وضعه الداخلي إلى درجة الغليان. لطالما كان لبنانياً عريقاً بكل ما تعنيه الكلمة، رافضاً أن يُحسب على عشيرة أو طائفة واحدة. كل من عرفه أو قابله أدرك كم كان يكره أن يُختزل في فئة من اللبنانيين، لأن وعيه لدور رئاسة الحكومة كان أكبر من هذه الحسابات الضيقة. فهو لا يحب أن يشعر بأنه أسير لأي مجموعة، بل أسير لفكرة واحدة هي مصلحة لبنان العليا.
وفي ميدان العلاقات الإقليمية، برز إخلاصه للدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التي حافظ معها على أواصر ثابتة، دون أن ينزلق في خصومات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فقد كان يدرك أن النزاعات بين الأشقاء العرب والمسلمين لا يجب أن يحوّل لبنان إلى ساحة لهم، بل كان يرى أن التضامن مع الجميع بما يخدم مصلحة لبنان هو الموقف الأسلم. هذا النهج جعله محط احترام في العالم العربي، وصوتاً عاقلاً في زمن الانقسامات والتجاذبات.
وتكتمل صورة الرئيس نواف سلام إذا عدنا إلى مسيرته الطويلة في العمل الدبلوماسي والدولي. فقد مثّل لبنان في الأمم المتحدة بصفته مندوباً دائماً، وهناك رفع الصوت عالياً دفاعاً عن سيادة وطنه واستقلاله. ولم يكن مجرد دبلوماسي عابر يقرأ نصوصاً مكتوبة، بل كان محاوراً صلباً، صاحب حجة دامغة، يعرف كيف يوصل صوت لبنان إلى المنابر الدولية بأقصى وضوح وقوّة. وفي خلال وجوده في نيويورك، نجح في تكوين شبكة علاقات واسعة مع دبلوماسيين من مختلف دول العالم، لكنه لم يساوم يوماً على ثوابت لبنان، وظل متمسكاً بحق شعبه في تقرير مصيره بعيداً عن الضغوط الخارجية.
كما أن انتخابه رئيساً لمحكمة العدل الدولية، أعلى سلطة قضائية في العالم، شكّل تتويجاً لمسيرته القانونية والفكرية. هذا الموقع لم يكن مجرّد شرف شخصي، بل كان انعكاساً لثقة المجتمع الدولي بكفاءته ونزاهته. في لاهاي، مارس دوره كرئيس محكمة عادل، متمسكاً بالمبادئ، حاملاً إرث مدرسة قانونية راسخة، ومؤكداً أن لبنان قادر على أن يقدّم للعالم شخصيات قانونية مرموقة. هذه التجربة أضافت إلى شخصيته السياسية بُعداً عالمياً، وجعلته أكثر إدراكاً لأهمية القانون الدولي كمرجع لحل النزاعات، لا القوة ولا السلاح.
ورغم تحفظه الدائم عن كشف ما في داخله، بقيت مروءته ووفاؤه وصدقه تفيض من بين سطور مواقفه. قليلون هم الذين جمعوا بين العلم الغزير، والثقافة الواسعة، والحدس السليم، والرؤية الإنسانية الواضحة، كما جمع هو.
إن الرئيس نواف سلام ليس مجرد سياسي أو قاضٍ أو دبلوماسي، بل هو تجسيد لرجل الدولة الذي يضع القيم فوق المصالح، والمبادئ فوق الحسابات، ولبنان فوق كل اعتبار.
إن ما يميز دولة الرئيس سلام في هذه المرحلة بالذات هو وعيه لحجم التحديات الداخلية والإقليمية، وإصراره على أن السيادة لا تتجزأ، وأن كرامة الدولة لا يمكن أن تُصان إلا إذا احتكرت وحدها السلاح والقرار الأمني. لقد واجه الضغوطات بإيمان عميق بقدرة اللبنانيين على توحيد كلمتهم خلف مؤسساتهم، ورفض أي محاولة لإغراق البلاد في دوامة التبعية أو الانقسام. ومن هنا يمكن القول إن مواقفه لم تكن مجرد شعارات، بل خطوات عملية قوامها الإصرار على تنفيذ القرارات الحكومية، ووضع خطة متكاملة تعهد الجيش بتنفيذها.
لقد أعاد نواف سلام الأمل إلى فكرة الدولة القادرة، الدولة التي لا تخضع ولا تُقهر، الدولة التي تعرف أن وحدتها الداخلية هي حصنها الأول، وأن جيشها هو ذراعها الشرعي الوحيد. ومن هنا فإن مواقفه السياسية التاريخية ستظل محفورة في ذاكرة اللبنانيين، وسيبقى رجل الدولة القوي، الذي لم يتنازل عن مبادئه، ولم يخضع للضغوط، بل جعل من السيادة والشرعية شعاراً وواقعاً في آن واحد، حفظه الله وأطال بعمره.
د. ابراهيم العرب