بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
أضافت سلطنة عمان نجمة إلى سجلّها الدبلوماسي الحافل. نجحت وساطتها في إبرام اتّفاق بين البيت الأبيض والحوثيين تتوقّف بموجبه واشنطن عن قصف اليمن في مقابل أن تتوقّف الجماعة اليمنيّة عن استهداف السفن الأميركية في البحر الأحمر وبحر العرب وتهديد الملاحة الدولية في باب المندب.
ظاهريّاً يبدو أنّ الاتّفاق أُبرم بين الحوثي وأميركا. واقعيّاً ما جرى ليس إلّا وجهاً من وجوه التفاوض الأميركي الإيراني الذي عنوانه الملفّ النووي، ومضمونه مستقبل العلاقة بين الطرفين والوضع في الشرق الأوسط وحدود النفوذ الإيراني فيه.
يبحث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن صفقة ما ترضي غروره الاستعراضيّ وتوقه إلى تحقيق انتصارات دعائيّة تُعينه في التفاوض على إبرام صفقات سياسية تفوح منها روائح المكاسب الاقتصادية والماليّة والتجارية. ويفتّش المرشد الإيراني عن مخرج لأزمة خانقة تهدّد نظامه وكيانه يحفظ له في الوقت نفسه ماء الوجه. كانت واشنطن تضغط على إيران لتقديم تنازلات من خلال ضرب الحوثيّ. وتحضّ طهران الجماعة اليمنية الموالية لها على تأجيج القتال وتهديد إسرائيل واستنزاف الغرب في تجارته وطرق إمداده في باب المندب، إحدى أكثر نقاط العالم حساسيّة للتجارة العالمية، هادفةً لإبراز أوراق القوّة على طاولة التفاوض.
ليس صدفة أنّ الصاروخ اليمني الذي طاول مطار بن غوريون الإسرائيلي أُطلق في اليوم ذاته من تعثّر المفاوضات الأميركية الإيرانية. وليس صدفة أنّ إعلان ترامب الاتّفاق مع الحوثي تزامن مع عودة المفاوضات إلى مسارها وبثّ روح التفاؤل في شرايينها، ومع قرب موعد الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي لدول الخليج، وفي مقدَّمها السعودية التي يعلَّق عليها آمال كبيرة لرسم مستقبل الإقليم، والحديث عن “إعلان كبير” منتظَر في غضون ساعات أو أيّام.
ارتباط الهدنة بالصّفقة
عينُ ترامب على صفقة التريليونات الأربعة مع إيران وأمن الممرّات المائية، لا على سلامة اليمن ولا استقراره ولا معاناة أهله. وعندما تدقّ ساعة الاتّفاق النهائي، إذا ما دقّت، لا غرابة أن يكون الحوثي وجماعته خارج لعبة الكبار ويعودوا إلى حجمهم المفترض في اللعبة الداخليّة اليمنيّة الصغرى وضروراتها الإقليمية.
بعد الإعلان، ظهرت مؤشّرات قويّة إلى ارتباط “هدنة البحر الأحمر” مع صفقة محتملة بين واشنطن وطهران، وقال نائب الرئيس الأميركي جي.دي فانس إنّ “هناك صفقة تنطوي على إعادة دمج إيران في الاقتصاد العالمي”، وأوضح أنّ “إيران يمكنها امتلاك طاقة نوويّة مدنية، لكن لا يمكنها الحصول على برنامج يسمح لها بالحصول على سلاح نووي”.
أمّا في المقلب الإيراني فلم يعد مهمّاً أن تقدّم طهران تنازلاً في إحدى جبهاتها الإقليمية لتحسين ظروفها قبل العودة إلى المفاوضات وجني اتّفاق مقبول، خصوصاً مع التقارير التي تتحدّث عن طلب إيران الانتقال إلى مفاوضات مباشرة في إطار “صفقة” منتظَرة.
التّفاوض أجدى من الحرب
هكذا ليست المفاجأة في سعي ترامب إلى إخراج أزمة الحوثيين من دائرة انشغالاته السياسية والعسكرية، ذلك أنّ حلّها هو على طاولة التفاوض مع إيران وإيجاد حلّ شرق أوسطيّ جديد، وليس في الميدان المكلف مادّياً وبشريّاً. أيّام قليلة من القتال كانت باهظة الثمن بالنسبة لرئيس تاجر لا يحبّذ صرف الأموال هباء ومن دون مقابلٍ مجدٍ وظاهر. خسرت أميركا في اليمن نحو ثماني مسيّرات قيمة كلّ واحدة 30 مليون دولار، وطائرة “إف 35” التي تبلغ قيمتها 60 مليون دولار، إضافة إلى مقاتلة من طراز “إف 18” فُقدت في البحر الأحمر بعدما انحرفت عن مدرج حاملة الطائرات “هاري إس ترومان”، وقيمتها أيضاً 60 مليون دولار أو أكثر. وإذا ما تواصلت الحرب فستكون الكلفة المادّية أكبر وأشدّ وقعاً في الداخل الأميركي الذي لا يحبّذ شنّ حروب جدّية، وعلى ترامب نفسه الحالم بالوقوف أمام المنصّة في أوسلو حاملاً جائزة نوبل للسلام.
بدل مواصلة الحرب ورفع العلم الأميركي على الأرض اليمنيّة، لجأ الرئيس الشغوف بإعلان الانتصارات الكبرى إلى أبسط الحلول إرضاءً للذات، فأعلن أنّ الحوثيّين “استسلموا”، وأنّهم “قالوا نرجوكم لا تقصفونا بعد الآن، ونحن لن نهاجم سفنكم”، وعليه ستتوقّف الضربات الأميركية في اليمن بعد المحادثات التي أدارها صديقه ستيف ويتكوف مع المبعوث الحوثي محمد عبدالسلام في مسقط.
لكنّ تبجّح ترامب لم يجارِه الوسيط العماني الذي لخّص الأمر بالقول إنّ الجهود الدبلوماسية بين الجهتين أسفرت عن التوصّل إلى اتّفاق على ألّا “يستهدف أيّ من الطرفين الآخر، بما في ذلك السفن الأميركية في البحر الأحمر وباب المندب، وبما يؤدّي إلى ضمان حرّية الملاحة، وانسيابيّة حركة الشحن التجاري الدولي”. في حين قدّم الحوثي نسخته الخاصّة عمّا حصل. قال مفاوضه محمد عبدالسلام إنّ الاتّفاق الذي حصل هو “مع الجانب الأميركي”، ويتضمّن التوقّف عن “استهداف السفن الأميركية”، لكنّه “لا يشمل استثناء إسرائيل من العمليّات بأيّ شكل من الأشكال”.
إذاً الاستهداف الحوثي للسفن الإسرائيلية سيظلّ قائماً ولن يشمله الاتّفاق. وبالفعل استمرّت الجماعة بإطلاق مسيّراتها شمالاً في اتّجاه العمق الإسرائيلي. فهل تخلّى ترامب عن أمن إسرائيل من أجل المصالح الأميركية؟ وهل ربط أمر الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر بوقف العدوان على غزّة؟
مفاجأة جديدة لإسرائيل
لذا المفاجأة مرّة أخرى ليست الاتّفاق مع الحوثي ومن خلفه مع الإيراني، بل سلوك ترامب إزاء إسرائيل، فهل هو نهج سيتواصل في السنوات المقبلة من حكمه أم شأن تقتضيه ضرورات المرحلة وإنجاز الاتّفاق مع إيران وتثبيت معادلات أميركية جديدة في المنطقة وفصل الملفّات المعقّدة فيها عن الأجندة الإسرائيلية المباشرة في غزّة والضفّة الغربية؟
عبّرت إسرائيل صراحة عن صدمتها بالاتّفاق وأكّدت عدم علمها المسبق به، علماً أنّ ويتكوف تحدّث في الأيّام الأخيرة مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، ولم يلمح له حتّى لأمر الاتّصالات مع الحوثيين، بحسب موقعَي “أكسيوس” الأميركي و”والا” الإسرائيلي.
هذه ليست المرّة الأولى التي يفاجئ فيها الرئيس الأميركي مَن يفترض أنّه الحليف الأقرب لواشنطن. الشهر الماضي صُدم بنيامين نتنياهو بنيّة ترامب التفاوض مع طهران في شأن اتّفاق نوويّ جديد، أثناء لقائهما في البيت الأبيض، وضربه عرض الحائط بالمطالبة الإسرائيلية لواشنطن بتبنّي الخيار العسكري ضدّ طهران.
قبل ذلك برز التمايز مع محاولة المبعوث الأميركي الخاصّ لشؤون الرهائن آدم بولر التفاوض مع “حماس” لإطلاق الرهائن الأميركيين، وهو ما أثار غضب إسرائيل وأدّى لاحقاً إلى إقالته. ومع ذلك واصل ترامب استفزاز نتنياهو بفرض رسوم جمركية على إسرائيل وتجاهل الأنشطة التركيّة في سوريا، مظهراً بذلك كذب ادّعاءات رئيس الوزراء أمام الإسرائيليين بأنّه ينسّق بشكل كامل مع البيت الأبيض. والأنكى من ذلك أنّ جولة ترامب الشرق الأوسطيّة لن تقوده إلى إسرائيل على الرغم من سعي نتنياهو إلى أن تشملها ولو لساعات محدودة، لكن من دون جدوى.
أبلغ مقرّبون من ترامب إلى صحيفة “يسرائيل هيوم” أنّه “يشعر بخيبة أمل من نتنياهو وقرّر المضيّ قدماً في التحرّكات في الشرق الأوسط من دونه”. فهل بات رئيس الوزراء الإسرائيلي العقدة الكأداء أمام المشاريع الأميركية؟
تتّسع الفوارق بين الأجندتين الأميركية والإسرائيلية. ترامب يحتاج إلى “انتصارات” بعد التداعيات الخطيرة لقراراته المالية والاقتصادية الأخيرة، ويحتاج إلى اتّفاق سريع مع إيران وإلى إنجاز صفقات كبرى، لن تكون هذه المرّة، بلا أثمان سياسية مجدية، لا سيما مع إصرار وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على ربط التطبيع بوقف العدوان على غزة واتّخاذ إجراءات ملموسة نحو حلّ الدولتين وحقّ السعودية في امتلاك الطاقة النووية السلمية. وربّما كانت جائزة الترضية الأولى اعتماد واشنطن تسمية الخليج العربي بدلاً من الخليج الفارسي.
أمين قمورية