البديل الأميركيّ لاقتحام رفح: الاغتيالات والسيطرة على فيلادلفيا

60

بقلم أمين قمورية «أساس ميديا»

هل تصير رفح نقطة تحوُّل في العلاقة الأميركية الإسرائيلية؟ ماذا يحصل لصورة إسرائيل داخل المنظومة السياسية الأميركية؟ هل فقدت إسرائيل صورتها الأميركية التاريخية؟

العلاقة بين إسرائيل وأميركا مركّبة ومعقّدة ومتداخلة ولا تشبه أيّ علاقة بين دولتين. الكيان المحتلّ الصغير يحتاج إلى الدولة العظمى من أجل البقاء والاستمرار.. والدولة الكبرى تحتاج إلى ركيزتها الصغرى من أجل إحكام سيطرتها على الشرق الأوسط الحيويّ والمهمّ لمواصلة فرض الهيمنة على العالم. لذلك قال الرئيس الأميركي جو بايدن مراراً وتكراراً: لو لم تكن إسرائيل لوجب علينا أن نوجدها.

الخلاف والاختلاف حدثا أحياناً بين الجانبين، لكنّهما حافظا على ثبات العلاقة وجوهرها. تغيّر المشهد بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت. إسرائيل ترى أنّ الحرب التي تخوضها وجوديّة. وتريد حكومتها أن تواصلها حتى النهاية غير عابئة بالاعتبارات الانتخابية ولا بمصير محتجزيها لدى “حماس” ولا بحياة المدنيين في غزة. نتنياهو بات مهووساً بالحرب يريد من واشنطن أن تمدّه بكلّ أنواع الدعم اللامحدود بلا حساب ولا تحفّظ أو سؤال. في المقابل، أيّدت الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض شنّ حرب مفتوحة على الفلسطينيين. وأعطت إسرائيل أكثر ممّا طلبت من الإسناد السياسي والماليّ والعسكري. وغطّت جرائمها والبشاعات التي اقترفتها ضدّ الأطفال والنساء، حتى تكاد تجد نفسها معزولة عن باقي العالم في المحافل الدولية. لكن بدأ سلوك حكومة نتنياهو وأساليب إدارته للحرب والأزمات الداخلية يجعلانها تخشى عليها من ذاتها ومن جنون قادتها وفاشيّتهم.

رأى زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السيناتور اليهودي تشاك شومر. وهو من أعتى المساندين لإسرائيل. أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية فقدَ البوصلة، وبات يوهم جمهوره، ويسوّق رؤية قديمة غير منطقية، ويدفع إسرائيل نحو عزلة، ويضعها في خطر. ولذلك على إسرائيل أن يكون لديها توجّه جديد، وأن تتّجه إلى انتخابات لأنّها في حاجة إلى قيادة جديدة. لم يتردّد الرئيس جو بايدن. الذي نصّب نفسه أباً وأمّاً للإسرائيليين غداة “طوفان الأقصى”، وتباهى بـ”صهيونيّته”. في كيل الانتقادات العلنية لنتنياهو ونواب ائتلافه اليمينيين المتطرّفين، ودعوة خصمهم اللدود بيني غانتس إلى واشنطن في زيارة رسمية.

طبعاً، كان ردّ اليمين الإسرائيلي أنّ إسرائيل ليست نجمة في العلم الأميركي، وليست جمهورية موز ولا محميّة أميركية. وأنّهم ماضون في إبادة القطاع وأهله ومواصلة تهويد الضفة وإسقاط حلّ الدولتين إلى الأبد.

رفح أصعب اختبار

إصرار نتنياهو على المضيّ في التحضيرات العسكرية لاجتياح رفح. آخر مدينة ناجية من الدمار الكامل في القطاع، وآخر مأوى للنازحين. وضع العلاقة الأميركية الإسرائيلية في أصعب اختبار. واشنطن تخشى إبادة جديدة في المدينة ترتدّ سلباً عليها وعلى إسرائيل معاً وترخي بأثقالها على الحملة الانتخابية لبايدن. ونتنياهو في المقابل يواصل لعبتَي الابتزاز والمماطلة اللتين يجيدهما طمعاً بتوسيع الحرب.

وفدان إسرائيليان في واشنطن لدراسة اقتراحات أميركية بديلة عن الخطّة الإسرائيلية لاقتحام رفح. واحد برئاسة وزير الحرب يوآف غالانت، وآخر برئاسة وزير الشؤون الاستراتيجيّة رون ديرمر ورئيس مجلس الأمن القومي تساهي هانغبي. تؤدّي الاقتراحات الأميركية الغرض الإسرائيلي نفسه لكن بأثمان سياسية أقلّ كلفة على الأميركيين والإسرائيليين معاً.

لا تحتاج الخطّة الأميركية إلى من يسرّبها إلى الإعلام بعدما باتت خطوطها العريضة واضحة للجميع ومرفقة بالتلويح بإجراءات عقابية. أشدّها ثقلاً على إسرائيل تقييد مبيعات الأسلحة. وعناوينها العريضة:

1- إيصال الغذاء والمساعدات إلى كلّ أرجاء القطاع ولا سيما شماله، والبدء بإعادة الإعمار، بعدما لاح مشهد المجاعة بين الأحياء الصامدين من سكّانه. وتريد واشنطن فعل ذلك حتى لو كلّفها الأمر قراراً ملزماً في مجلس الأمن. وذلك ليس رأفة بالفلسطينيين الجياع. بل خشية أن تتّهم المنظمات الدولية والوكالات الأممية إسرائيل بارتكاب فاحشة التجويع والمجاعة. التي توازي الإبادة الجماعية في القانون الدولي، ومن شأن إعلانها جرّ الدولة العبرية مجدّداً إلى القضاء الدولي والمحاكمة الجنائية.

2- إبدال اقتحام رفح بالسيطرة العسكرية على الحدود الجنوبية للقطاع، أي على محور فلادلفيا، وقطع أيّ تواصل برّي بين غزة والعالم الخارجي. على أن توفّر واشنطن لإسرائيل التمويل اللازم لتأمين الحدود والغطاء السياسي للعملية. وهكذا يمكن الحدّ من الكلفة البشرية الباهظة للاقتحام العسكري وسقوط الآلاف من الضحايا المدنيين. وتوفير الحماية الأمنيّة الطويلة المدى لإسرائيل بقطع طرق الإمداد العسكري والمدني للقطاع. وبالتحكّم بأنفاس سكّانه بعد إغلاق المعابر البرّية وحصرها بالممرّ البحري المراقب إسرائيلياً وأميركياً.

تعتقد واشنطن أنّ إغلاق الحدود سيكون أكثر أهميّة لتفكيك “حماس” من شنّ هجوم برّي كبير في رفح. كما من شأن التخلّي عن الاقتحام تخفيف الغضب المصري في حال الإصرار على جعل مصير رفح كمصير خان يونس وجباليا وبيت لاهيا. وذلك بالسعي مع القاهرة إلى التوصّل إلى ترتيب جديد وبناء البنية التحتية اللازمة لقطع طريق التهريب بين القطاع والأراضي المصرية. وهكذا تريد واشنطن ضمان سيطرة إسرائيلية كاملة على حدود فلسطين المحتلّة مع مصر. أي ضمان بيئة آمنة للكيان بإبعاد أيّ فصيل فلسطيني مقاوم عن إمكان امتلاك زمام الأمور والسيطرة على الحدود، وحفظ اتفاقيات التطبيع.

3- مواصلة ملاحقة قادة “حماس” والمقاومة بالاغتيالات من دون شنّ هجوم على رفح، ومواصلة العمليات العسكرية في أماكن أخرى، علماً أنّ سياسة التصفية الجسدية للقادة التي دأبت إسرائيل على تطبيقها منذ قيامها لم تفلح في لجم إصرار الفلسطينيين على مقاومة احتلالها لأرضهم، بل زادتها استعاراً.

هل تُنقذ أميركا إسرائيل؟

الخطة الأميركية المقترحة هي بمنزلة الخطّة “باء” ليس فقط لإنقاذ الاحتلال. بل لإنقاذ أميركا أيضاً كي تكون قادرة على التقاط أنفاسها قبل طرح مسألة “اليوم التالي” لقطاع غزة والقضية الفلسطينية ككلّ. فالمتغيّرات التي أفرزها العدوان على غزة في الداخل الفلسطيني والإقليم وعلى مستوى العالم أيضاً تحتاج أميركا معها إلى استراحة وإعادة ترتيب أوراقها. وذلك لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتماشى مع المرحلة الجديدة وحفظ الدور الإقليمي لإسرائيل في المنطقة، الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالنفوذ الأميركي فيها.

خلافاً للتوصية الأميركية، لا يزال نتنياهو يتمسّك بشنّ هجوم برّي على رفح أيّاً كانت الأثمان المترتّبة عليه. اعتقاداً منه أنّ ذلك هو السبيل الوحيد لـ”إعلان النصر”، واستعادة هيبة الجيش الإسرائيلي. التي اهتزّت في 7 أكتوبر. وضمان تتويجه “ملكاً” على إسرائيل وتجنّب الجلوس خلف قضبان السجن.

إذاً “خطّ أحمر” من نتنياهو الذي يواجه لحظة مصيرية حرجة، يقابله “خطّ أحمر” من بايدن المثقل بالهمّ الانتخابي. يملك الرئيس الأميركي قدرات عقابية يمكنها فرض مسار سياسي بديل. والحاكم الإسرائيلي المهووس بالقتل والحرب يعشق التخريب من أجل أناه، ويتحكّم بشريحة انتخابية وازنة في أميركا، صارت ضرورية للديمقراطيين بعدما خسروا ناخباً عربياً مؤثّراً في ولايات متأرجحة. فمن يلوي ذراع من في الأشهر المقبلة؟ وهل تنجو رفح من أمّ الجرائم أم لوحة “غيرنيكا” جديدة ستُرسم بركام جدرانها وأجساد النازحين إليها؟

أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.